الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " فلما أن جاء البشير " فيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنه يهوذا ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال وهب بن منبه ، والسدي ، والجمهور . والثاني : أنه شمعون ، قاله الضحاك .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل : ما الفرق بين قوله هاهنا : " فلما أن جاء " وقال في موضع : فلما جاءهم [البقرة :89] .

                                                                                                                                                                                                                                      فالجواب : أنهما لغتان لقريش خاطبهم الله بهما جميعا ، فدخول " أن " لتوكيد مضي الفعل ، وسقوطها للاعتماد على إيضاح الماضي بنفسه ، ذكره ابن الأنباري .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ألقاه " يعني القميص " على وجهه " يعني يعقوب " فارتد بصيرا " ، الارتداد : رجوع الشيء إلى حال قد كان عليها . قال ابن الأنباري : إنما قال ارتد ، ولم يقل : رد ، لأن هذا من الأفعال المنسوبة إلى المفعولين ، كقولهم : طالت النخلة ، والله أطالها ، وتحركت الشجرة ، والله حركها : قال الضحاك : رجع إليه بصره بعد العمى ، وقوته بعد الضعف ، وشبابه بعد الهرم ، وسروره بعد الحزن .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى يحيى بن يمان عن سفيان قال : لما جاء البشير يعقوب ، قال : على أي دين تركت يوسف ؟ قال : على الإسلام ، قال : الآن تمت النعمة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 287 ] قوله تعالى : " ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون " فيه أقوال قد سبق ذكرها قبل هذا بقليل .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا " سألوه يستغفر لهم ما أتوا ، لأنه نبي مجاب الدعوة . " قال سوف أستغفر لكم ربي " في سبب تأخيره لذلك ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما : أنه أخرهم لانتظار الوقت الذي هو مظنة الإجابة ، ثم فيه ثلاثة أقوال :أحدها : أنه أخرهم إلى ليلة الجمعة ، رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال وهب : كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة . والثاني : إلى وقت السحر من ليلة الجمعة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . قال طاووس : فوافق ذلك ليلة عاشوراء . والثالث : إلى وقت السحر ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال ابن مسعود ، وابن عمر ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل . قال الزجاج : إنما أراد الوقت الذي هو أخلق لإجابة الدعاء ، لا أنه ضن عليهم بالاستغفار ، وهذا أشبه بأخلاق الأنبياء عليهم السلام .

                                                                                                                                                                                                                                      والقول الثاني : أنه دفعهم عن التعجيل بالوعد . قال عطاء الخراساني : طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها عند الشيوخ ، ألا ترى إلى قول يوسف : " لا تثريب عليكم اليوم " وإلى قول يعقوب : " سوف أستغفر لكم ربي " .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : أنه أخرهم ليسأل يوسف ، فإن عفا عنهم ، استغفر لهم ، قاله الشعبي . وروي عن أنس بن مالك أنهم قالوا : يا أبانا إن عفا الله عنا ، وإلا فلا [ ص: 288 ] قرة عين لنا في الدنيا ، فدعا يعقوب وأمن يوسف ، فلم يجب فيهم عشرين سنة ، ثم جاء جبريل فقال : إن الله قد أجاب دعوتك في ولدك ، وعفا عما صنعوا به ، واعتقد مواثيقهم من بعد على النبوة . قال المفسرون : وكان يوسف قد بعث مع البشير إلى يعقوب جهازا ومائتي راحلة ، وسأله أن يأتيه بأهله وولده ، فلما ارتحل يعقوب ودنا من مصر ، استأذن يوسف الملك الذي فوقه في تلقي يعقوب ، فأذن له ، وأمر الملأ من أصحابه بالركوب معه ، فخرج في أربعة آلاف من الجند ، وخرج معهم أهل مصر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : إن الملك خرج معهم أيضا . فلما التقى يعقوب ويوسف ، بكيا جميعا فقال يوسف : يا أبت بكيت علي حتى ذهب بصرك ، أما علمت أن القيامة تجمعني وإياك ؟ قال : أي بني ، خشيت أن تسلب دينك فلا نجتمع .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : إن يعقوب ابتدأه بالسلام ، فقال : السلام عليكم يا مذهب الأحزان .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية