الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وأما حكمة تعدد زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - فمنها ما هو كفالة بعض النساء المؤمنات ، ومنها ما له سبب سياسي ، أو علمي ديني . وقد سبق لنا فتوى في ذلك نشرت في المجلد الخامس من المنار ( ص699 ) وهذا نص السؤال ، والجواب .

                          ( تعدد زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم ) ( س ) مصطفى أفندي رشدي المرلي بالزقازيق : ما هي الحكمة في تعدد زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر مما أباحه القرآن الشريف لسائر المؤمنين ، وهو التزوج بأربع فما دونها وتعين الواحدة عند خوف الخروج عن العدل ؟

                          ( ج ) إن الحكمة العامة في تلك الزيادة على الواحدة في سن الكهولة ، والقيام بأعباء الرسالة ، والاشتغال بسياسة ، ومدافعة المعتدين دون سن الشباب ، وراحة البال هي السياسة الرشيدة ، فأما خديجة ، وهي الزوج الأولى فالحكمة في اختيارها وراء سنة الفطرة معروفة وليست من موضوع السؤال .

                          وقد عقد بعد وفاتها على سودة بنت زمعة وكانت قد توفي عنها زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية ، والحكمة في اختيارها أنها من المؤمنات المهاجرات الهاجرات لأهليهن خوف [ ص: 304 ] الفتنة ، ولو عادت إلى أهلها بعد وفاة زوجها ( وكان ابن عمها ) لعذبوها وفتنوها فكفلها النبي - صلى الله عليه وسلم - وكافأها بهذه المنة العظيمة .

                          ثم بعد شهر عقد على عائشة بنت الصديق ، والحكمة في ذلك كالحكمة في التزوج بحفصة بنت عمر بعد وفاة زوجها خنيس بن حذافة ببدر ، وهي إكرام صاحبيه ووزيريه أبي بكر ، وعمر ( رضي الله عنهما ) ، وإقرار أعينهما بهذا الشرف العظيم ، ( كما أكرم عثمان ، وعليا - رضي الله عنهما - ببناته ، وهؤلاء أعظم أصحابه ، وأخلصهم خدمة لدينه ) .

                          وأما التزوج بزينب بنت جحش ، فالحكمة فيه تعلو كل حكمة ، وهي إبطال تلك البدع الجاهلية التي كانت لاحقة ببدعة التبني كتحريم التزوج بزوجة المتبنى بعده وغير ذلك . وقد نشرنا في المجلد الثالث من المنار مقالين في هذه المسألة أحدهما للأستاذ الإمام ، فليراجعهما السائل هناك .

                          ويقرب من هذه الحكمة الحكمة في التزوج بجويرية ، وهي برة بنت الحارث سيد قومه بني المصطلق ، فقد كان المسلمون أسروا من قومها مائتي بيت بالنساء والذراري ، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعتق المسلمون الأسرى فتزوج بسيدتهم ، فقال الصحابة عليهم الرضوان : أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينبغي أسرهم وأعتقوهم ، فأسلم بنو المصطلق - لذلك - أجمعون ، وصاروا عونا للمسلمين بعد أن كانوا محاربين لهم وعونا عليهم ، وكان لذلك أثر حسن في سائر العرب .

                          وقبل ذلك تزوج - صلى الله عليه وسلم - بزينب بنت خزيمة بعد قتل زوجها عبد الله بن جحش في ( أحد ) ، وحكمته في ذلك أن هذه المرأة كانت من فضليات النساء في الجاهلية حتى كانوا يدعونها أم المساكين لبرها بهم ، وعنايتها بشأنهم ، فكافأها - عليه التحية والسلام - على فضائلها بعد مصابها بزوجها بذلك ، فلم يدعها أرملة تقاسي الذل الذي كانت تجير منه الناس ، وقد ماتت في حياته .

                          وتزوج بعدها أم سلمة ( واسمها هند ) وكانت هي وزوجها ( عبد الله أبو سلمة بن أسد ابن عمة الرسول برة بنت عبد المطلب وأخوه من الرضاعة ) أول من هاجر إلى الحبشة ، وكانت تحب زوجها وتجله ، حتى إن أبا بكر وعمر خطباها بعد وفاته فلم تقبل ، ولما قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : سلي الله أن يأجرك في مصيبتك ويخلفك خيرا قالت : ومن يكون خيرا من أبي سلمة ؟ فمن هنا يعلم السائل وغيره مقدار مصاب هذه المرأة الفاضلة بزوجها ، وقد رأى - صلى الله عليه وسلم - أنه لا عزاء لها عنه إلا به ، فخطبها فاعتذرت بأنها مسنة وأم أيتام ، فأحسن - صلى الله عليه وسلم - الجواب - وما كان إلا محسنا - وتزوج بها ، وظاهر أن ذلك [ ص: 205 ] الزواج ليس لأجل التمتع المباح له ، وإنما كان لفضلها الذي يعرفه المتأمل بجودة رأيها يوم الحديبية ولتعزيتها كما تقدم .

                          وأما زواجه بأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان بن حرب فلعل حكمته لا تخفى على إنسان عرف سيرتها الشخصية ، وعرف عداوة قومها في الجاهلية ، والإسلام لبني هاشم ، ورغبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تأليف قلوبهم ، كانت رملة عند عبيد الله بن جحش ، وهاجرت معه إلى الحبشة الثانية فتنصر هناك ، وثبتت هي على الإسلام . فانظروا إلى إسلام امرأة يكافح أبوها بقومه النبي ويتنصر زوجها ، وهي معه في هجرة معروف سببها ، أمن الحكمة أن تضيع هذه المؤمنة الموقنة بين فتنتين ؟ أم من الحكمة أن يكلفها من تصلح له وهو أصلح لها ؟

                          كذلك تظهر الحكمة في زواج صفية بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير وقد قتل أبوها مع بني قريظة وقتل زوجها يوم خيبر ، وكان أخذها دحية الكلبي من سبي خيبر فقال الصحابة : يا رسول الله ، إنها سيدة بني قريظة والنضير لا تصلح إلا لك ، فاستحسن رأيهم ، وأبى أن تذل هذه السيدة بأن تكون أسيرة عند من تراه دونها فاصطفاها ، وأعتقها ، وتزوجها ، ووصل سببه ببني إسرائيل ، وهو الذي كان ينزل الناس منازلهم .

                          وآخر أزواجه ميمونة بنت الحارث الهلالية ( وكان اسمها برة فسماها ميمونة ) ، والذي زوجها منه عمه العباس رضي الله عنه ) وكانت جعلت أمرها إليه بعد وفاة زوجها الثاني أبي رهم بن عبد العزى ، وهي خالة عبد الله بن عباس ، وخالد بن الوليد ، فلا أدري هل كانت الحكمة في تزوجه بها تشعب قرابتها في بني هاشم وبني مخزوم أم غير ذلك ؟

                          وجملة الحكمة في الجواب أنه - صلى الله عليه وسلم - راعى المصلحة في اختيار كل زوج من أزواجه ( عليهن الرضوان ) في التشريع ، والتأديب فجذب إليه كبار القبائل بمصاهرتهم ، وعلم أتباعه احترام النساء وإكرام كرائمهن ، والعدل بينهن ، وقرر الأحكام بذلك ، وترك من بعده تسع أمهات للمؤمنين يعلمن نساءهم من الأحكام ما يليق بهن مما ينبغي أن يتعلمنه من النساء [ ص: 306 ] دون الرجال ، ولو ترك واحدة فقط لما كانت تغني في الأمة غناء التسع ، ولو كان - عليه السلام - أراد بتعدد الزواج ما يريده الملوك ، والأمراء من التمتع بالحلال فقط لاختار حسان الأبكار على أولئك الثيبات المكتهلات كما قال لمن اختار ثيبا : هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك هذا ما ظهر لنا في حكمة التعدد ، وإن أسرار سيرته - صلى الله عليه وسلم - أعلى من أن تحيط بها كلها أفكار مثلنا اهـ .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية