الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        2508 حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا أبو جمرة قال سمعت زهدم بن مضرب قال سمعت عمران بن حصين رضي الله عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال عمران لا أدري أذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد قرنين أو ثلاثة قال النبي صلى الله عليه وسلم إن بعدكم قوما يخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون وينذرون ولا يفون ويظهر فيهم السمن

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال النبي - صلى الله عليه وسلم ) هو موصول بالإسناد المذكور فهو بقية حديث عمران وسيأتي في الفضائل ما يوضح ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إن بعدكم قوما ) كذا للأكثر ، وفي رواية النسفي وابن شبويه " إن بعدكم قوم " قال الكرماني لعله كتب بغير ألف على اللغة الربيعية أو حذف منه ضمير الشأن .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( يخونون ) كذا في جميع الروايات التي اتصلت لنا بالخاء المعجمة والواو مشتق من الخيانة ، وزعم ابن حزم أنه وقع في نسخة يحربون بسكون المهملة وكسر الراء بعدها موحدة ; قال : فإن كان محفوظا فهو من قولهم حربه يحربه إذا أخذ ماله وتركه بلا شيء ، ورجل محروب أي مسلوب المال .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) : قال النووي : وقع في أكثر نسخ مسلم " ولا يتمنون " بتشديد المثناة قال غيره هو نظير قوله : " ثم يتزر " موضع قوله : " يأتزر " وادعى أنه شاذ ، ولكن قد قرأ ابن محيصن ( فليؤد الذي اتمن أمانته ) ووجهه ابن مالك بأنه شبه بما فاؤه واو أو تحتانية قال : وهو مقصور على السماع .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ولا يؤتمنون ) أي لا يثق الناس بهم ولا يعتقدونهم أمناء بأن تكون خيانتهم ظاهرة بحيث لا يبقى للناس اعتماد عليهم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ويشهدون ولا يستشهدون ) يحتمل أن يكون المراد التحمل بدون التحميل أو الأداء بدون طلب ، والثاني أقرب ، ويعارضه ما رواه مسلم من حديث زيد بن خالد مرفوعا " ألا أخبركم بخير الشهداء ؟ الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها " ، واختلف العلماء في ترجيحهما فجنح ابن عبد البر إلى ترجيح حديث زيد بن خالد لكونه من رواية أهل المدينة ، فقدمه على رواية أهل العراق وبالغ فزعم أن حديث عمران هذا لا أصل له . وجنح غيره إلى ترجيح حديث عمران لاتفاق صاحبي الصحيح عليه وانفراد مسلم بإخراج حديث زيد بن خالد .

                                                                                                                                                                                                        وذهب آخرون إلى الجمع بينهما فأجابوا بأجوبة : أحدها : أن المراد بحديث زيد : من عنده شهادة لإنسان بحق لا يعلم بها صاحبها فيأتي إليه فيخبره بها ، أو يموت صاحبها العالم بها ويخلف ورثة فيأتي الشاهد إليهم أو إلى من يتحدث عنهم فيعلمهم بذلك ، وهذا أحسن الأجوبة وبهذا أجاب يحيى بن سعيد شيخ مالك ومالك وغيرهما . ثانيها : أن المراد به شهادة الحسبة ، وهي ما لا يتعلق بحقوق الآدميين المختصة بهم محضا ، ويدخل في الحسبة مما يتعلق بحق الله أو فيه شائبة منه العتاق والوقف والوصية العامة والعدة والطلاق والحدود ونحو ذلك ، وحاصله أن المراد بحديث ابن مسعود الشهادة في حقوق الآدميين ، والمراد بحديث زيد بن خالد الشهادة في حقوق الله .

                                                                                                                                                                                                        ثالثها : أنه محمول على المبالغة في الإجابة إلى الأداء فيكون لشدة استعداده لها كالذي أداها قبل أن يسألها كما يقال في وصف الجواد : إنه ليعطي قبل الطلب أي يعطي سريعا عقب السؤال من غير توقف . وهذه الأجوبة مبنية على أن الأصل في أداء الشهادة [ ص: 308 ] عند الحاكم أن لا يكون إلا بعد الطلب من صاحب الحق ، فيخص ذم من يشهد قبل أن يستشهد بمن ذكر ممن يخبر بشهادة عنده لا يعلم صاحبها بها أو شهادة الحسبة . وذهب بعضهم إلى جواز أداء الشهادة قبل السؤال على ظاهر عموم حديث زيد بن خالد ، وتأولوا حديث عمران بتأويلات : أحدها : أنه محمول على شهادة الزور أي يؤدون شهادة لم يسبق لهم تحملها ، وهذا حكاه الترمذي عن بعض أهل العلم . ثانيها : المراد بها الشهادة في الحلف يدل عليه قول إبراهيم في آخر حديث ابن مسعود " كانوا يضربوننا على الشهادة " أي قول الرجل : أشهد بالله ما كان إلا كذا على معنى الحلف فكره ذلك كما كره الإكثار من الحلف ، واليمين قد تسمى شهادة كما قال تعالى : فشهادة أحدهم وهذا جواب الطحاوي .

                                                                                                                                                                                                        ثالثها : المراد بها الشهادة على المغيب من أمر الناس فيشهد على قوم أنهم في النار وعلى قوم أنهم في الجنة بغير ذلك كما صنع ذلك أهل الأهواء حكاه الخطابي . رابعها : المراد به من ينتصب شاهدا وليس من أهل الشهادة . خامسها : المراد به التسارع إلى الشهادة وصاحبها بها عالم من قبل أن يسأله . والله أعلم . وقوله : " يشهدون ولا يستشهدون " استدل به على أن من سمع رجلا يقول : لفلان عندي كذا فلا يسوغ له أن يشهد عليه بذلك إلا إن استشهده ، وهذا بخلاف من رأى رجلا يقتل رجلا أو يغصبه ماله فإنه يجوز له أن يشهد بذلك ، وإن لم يستشهده الجاني .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وينذرون ) بفتح أوله وبكسر الذال المعجمة وبضمها ( ولا يفون ) يأتي الكلام عليه في كتاب النذور .

                                                                                                                                                                                                        وقوله : ( ويظهر فيهم السمن ) بكسر المهملة وفتح الميم بعدها نون أي يحبون التوسع في المآكل والمشارب ، وهي أسباب السمن بالتشديد . قال ابن التين : المراد ذم محبته وتعاطيه لا من تخلق بذلك ، وقيل : المراد يظهر فيهم كثرة المال ، وقيل المراد أنهم يتسمنون أي يتكثرون بما ليس فيهم ويدعون ما ليس لهم من الشرف ، ويحتمل أن يكون جميع ذلك مرادا . وقد رواه الترمذي من طريق هلال بن يساف عن عمران بن حصين بلفظ " ثم يجيء قوم يتسمنون ويحبون السمن " وهو ظاهر في تعاطي السمن على حقيقته . فهو أولى ما حمل عليه خبر الباب وإنما كان مذموما ; لأن السمين غالبا بليد الفهم ثقيل عن العبادة كما هـو مشهور .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية