الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويحرم عليه أكل ما صيد له لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي [ ص: 317 ] صلى الله عليه وسلم قال { : الصيد حلال لكم ما لم تصيدوه أو يصاد لكم } ويحرم عليه أكل ما أعان على قتله بدلالة أو إعارة لما روى عبد الله بن أبي قتادة قال { : كان أبو قتادة في قوم محرمين وهو حلال فأبصر حمار وحش فاختلس من بعضهم سوطا فضربه به حتى صرعه ثم ذبحه وأكله هو وأصحابه فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هل أشار إليه أحد منكم ؟ قالوا : لا قال : فلم ير بأكله بأسا } فإن أكل ما صيد له أو أعان على قتله فهل يجب عليه الجزاء ؟ أم لا ؟ فيه قولان : ( أحدهما ) يجب ; لأنه فعل محرم بحكم الإحرام فوجبت فيه الكفارة كقتل الصيد ( والثاني ) لا يجب ; لأنه ليس بنام ولا يئول إلى النماء فلا يضمن بالجزاء كالشجر اليابس والبيض المذر ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) أما حديث جابر فرواه أبو داود والترمذي والنسائي من رواية عمرو بن أبي عمرو والمدني مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب عن مولاه المطلب عن جابر وإسناده إلى عمرو بن أبي عمرو صحيح ( وأما ) عمرو بن أبي عمرو فقال النسائي : ليس هو بقوي وإن كان قد روى عنه مالك وكذا قال يحيى بن معين هو ضعيف ليس بقوي وليس بحجة وقد أشار الترمذي إلى تضعيف الحديث من وجه آخر فقال : لا يعرف للمطلب سماع من جابر فأما تضعيف عمرو بن أبي عمرو فغير ثابت ; لأن البخاري ومسلما رويا له في صحيحيهما واحتجا به وهما القدوة في هذا الباب وقد احتج به مالك وروى عنه وهو القدوة وقد عرف من عادته أنه لا يروي في كتابه إلا عن ثقة وقال أحمد بن حنبل فيه : ليس به بأس وقال أبو زرعة : هو ثقة وقال أبو حاتم : لا بأس به وقال ابن عدي : لا بأس به ; لأن مالكا روى عنه ولا يروي مالك إلا عن صدوق ثقة ( قلت ) : وقد عرف أن الجرح لا يثبت إلا مفسرا ولم يفسره ابن معين والنسائي يثبت تضعيفه ( وأما ) إدراك المطلب لجابر فقال ابن أبي حاتم : وروى عن جابر قال : ويشبه أن يكون أدركه هذا كلام [ ص: 318 ] ابن أبي حاتم فحصل شك في إدراكه ومذهب مسلم بن الحجاج الذي ادعى في مقدمة صحيحه الإجماع فيه أنه لا يشترط في اتصال الحديث اللقاء بل يكفي إمكانه والإمكان حاصل قطعا ومذهب علي بن المديني والبخاري والأكثرين اشتراط ثبوت اللقاء فعلى مذهب مسلم الحديث متصل وعلى مذهب الأكثرين يكون مرسلا لبعض كبار التابعين وقد سبق أن مرسل التابعي الكبير يحتج به عندنا إذا اعتضد بقول الصحابة أو قول أكثر العلماء أو غير ذلك مما سبق وقد اعتضد هذا الحديث فقال به من الصحابة رضي الله عنهم من سنذكره في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله - تعالى - والله أعلم .

                                      ( وأما ) حديث عبد الله بن أبي قتادة الذي ذكره المصنف فرواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه وينكر على المصنف كونه جعله مرسلا فقال : عن عبد الله بن أبي قتادة قال : كان أبو قتادة فلم يذكر أنه سمعه من أبيه مع أن الحديث في الصحيحين عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه متصل فغيره المصنف ( وقوله ) في حديث جابر { : ما لم تصيدوه أو يصاد لكم } هكذا الرواية فيه يصاد بالألف وهو جائز على لغة ومنه قوله تعالى : { إنه من يتق ويصبر } على قراءة من قرأ بالياء ومنه قول الشاعر :

                                      ألم يأتيك والأنباء تنمي

                                      وقد غير المصنف ألفاظا في حديث أبي قتادة فلفظه في البخاري ومسلم : " عن عبد الله بن أبي قتادة أن أباه حدثه قال : { انطلقنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فأحرم أصحابه ولم أحرم فبصر أصحابنا بحمار وحش فجعل بعضهم يضحك إلى بعض فنظرت فرأيته فحملت عليه الفرس فطعنته فأثبته فاستعنتهم فلم يعينوني فأكلنا منه ثم لحقت [ ص: 319 ] برسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله إنا صدنا حمار وحش وإن عندنا فاضلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : كلوا وهم محرمون } وفي رواية { فرأيت أصحابي يتراءون شيئا فنظرت فإذا حمار وحش فوقع السوط فقالوا : لا نعينك عليه بشيء إنا محرمون فتناولته فأخذته ثم أتيت الحمار من وراء أكمة فعقرته فأتيت به أصحابي فقال بعضهم : كلوا وقال بعضهم : لا تأكلوا فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو أمامنا فسألته فقال : كلوه حلال } وفي رواية : { هو حلال فكلوه } .

                                      وفي رواية في الصحيحين فقال النبي صلى الله عليه وسلم { : هل منكم أحد أمره أن يحمل عليه أو أشار إليه ؟ } وفي رواية { أنه سأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا فسألهم رمحه فأبوا فأخذه ثم شد على الحمار فقتله فأكل منه بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بعضهم فأدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن ذلك فقال : إنما هي طعمة أطعمكموها الله - عز وجل - } وفي رواية البخاري قال { : كنت جالسا مع رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مكة والقوم محرمون وأنا غير محرم فأبصروا حمارا وحشيا وأنا مشغول أخصف نعلي فلم يؤذنوني به وأحبوا لو أني أبصرته فالتفت فأبصرته فقمت إلى الفرس فأسرجته ثم ركبت ونسيت السوط والرمح فقلت لهم : ناولوني السوط والرمح فقالوا : لا والله لا نعينك عليه بشيء فغضبت فنزلت فأخذتهما ثم ركبت فشددت على الحمار فعقرته ثم جئت به وقد مات فوقعوا عليه يأكلونه ثم إنهم شكوا في أكلهم إياه وهم حرم فرحنا وخبأت العضد معي فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه [ ص: 320 ] عن ذلك فقال : هل معكم من شيء فناولته العضد فأكلها حتى تعرقها وهو محرم } . وفي رواية لمسلم فقال { : هل معكم شيء ؟ فناولته العضد فأكلها ثم تعرقها وهو محرم } وفي رواية لمسلم فقال : { هل معكم منه شيء ؟ فقالوا : معنا رجله فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلها } هذه ألفاظ الحديث في الصحيح وإنما أخذ صلى الله عليه وسلم ما أخذه وأكله تطييبا لقلوبهم في إباحته ومبالغة في إزالة الشبهة عنهم والشك فيه لحصول الاختلاف فيه بينهم قبل ذلك والله أعلم .

                                      ( أما ) قول المصنف : لأنه فعل محرم بحكم الإحرام فوجبت فيه الكفارة فقال القلعي : احترز بفعل عن عقد وبقوله : محرم من الأفعال المباحة في الإحرام ( وبقوله ) : في الإحرام عن ذبح شاة غيره ( وقوله ) : ليس بنام احتراز من قتل الصيد وقطع شجر الحرم ( وقوله ) : ولا يئول إلى النماء احتراز من كسر بيض الصيد ( وقوله ) : البيض المذر هو - بالذال المعجمة - أي الفاسد والله أعلم .

                                      أما حكم المسألة فقال الشافعي والأصحاب : يحرم على المحرم أكل صيد صاده هو أو أعان على اصطياد أو أعان على قتله بدلالة أو إعارة آلة سواء دل عليه دلالة ظاهرة أو خفية وسواء إعارة ما يستغني عنه القاتل أم لا وهذا لا خلاف فيه قال الشافعي والأصحاب : ويحرم عليه لحم ما صاده الحلال والمحرم سواء علم به المحرم وأمره بذلك أم لا وهذا لا خلاف فيه أيضا ( وأما ) إذا صاد الحلال شيئا ولم يقصد اصطياده للمحرم ولا كان من المحرم فيه إعانة ولا دلالة فيحل للمحرم أكله بلا خلاف ولا جزاء عليه في ذلك بلا خلاف فإن أكل المحرم مما صاده الحلال [ ص: 321 ] له أو بإعانته أو دلالته ففي وجوب الجزاء عليه قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما : ( الأصح ) الجديد لا جزاء ( والقديم ) وجوب الجزاء وهو القيمة بقدر ما أكل هكذا قال الأكثرون تفريعا على القديم وقال الماوردي : في كيفية الضمان على القديم ثلاثة أوجه : ( أحدها ) يضمن مثله لحما من لحوم النعم يتصدق به على مساكين الحرم ( والثاني ) يضمن مثله من النعم فيضمن بقدر ما أكل من مثله من النعم فإن أكل عشر لحمه لزمه عشر مثله ( والثالث ) يضمن قيمة ما أكل دراهم فإن شاء تصدق بها دراهم وإن شاء اشترى بها طعاما وتصدق به هذا نقل الماوردي وعلى مقتضى الثالث أنه إن شاء صام عن كل مد يوما ( أما ) إذا أكل المحرم ما ذبحه بنفسه فقد ذكر المصنف بعد هذا وسائر الأصحاب أنه لا يلزمه بأكله بعد الذبح شيء آخر بلا خلاف عندنا كما لا يلزمه في صيد الحرم بعد الذبح شيء آخر إنما يلزمه في الموضعين جزاء قتله فقط هذا مذهبنا وقال أبو حنيفة : يلزمه في صيد الإحرام جزاء آخر ووافقنا في صيد الحرم فلهذا قاس الأصحاب عليه وقاسوه أيضا على من ذبح شاة لآدمي ثم أكلها فإنه تلزمه قيمة واحدة والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية