الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب ذكر خلافة سليمان بن عبد الملك

ويكنى أبا أيوب ، بويع يوم موت أخيه الوليد ، وكان بالرملة ، فوصل الخبر إليه بعد سبعة أيام ، [فبويع] ، وسار إلى دمشق ، فورد على فاقة من الناس إليه لما كانوا فيه من جور الوليد وعسفه ، فأحسن السيرة ، ورد المظالم ، وفك الأسرى ، وأطلق أهل السجون ، واتخذ عمر بن عبد العزيز وزيرا ، ثم عهد إليه .

وكان طويلا أسمرا أعرج أكولا ، نشأ بالبادية عند أخواله ، فلما قدم صعد المنبر ، فخنقته العبرة ، ثم قال:


ركب تخب به المطي فغافل عن سيره ومشمر لم يغفل     لا بد أن يرد المقصر والذي
حب النجاء محله لم تحلل

يا أيها الناس ، رحم الله من ذكر فاذكر ، فإن العظة تجلو العمى ، إنكم أوطنتم أنفسكم دار الرحلة ، واطمأننتم إلى دار الغرور فألهاكم الأمل وغرتكم الأماني ، فأنتم سفر وإن أقمتم ، ومرتحلون وإن وطنتم ، لا تشتكي مطاياكم ألم الكلال ، ولا يتعبها دأب السير ، ليل يدلج بكم وأنتم نائمون ، ونهار يجد بكم وأنتم غافلون ، لكم في كل يوم مشيع لا يستقبل ، ومودع لا يؤوب . أولا ترون - رحمكم الله - إلى ما أنتم فيه منافسون ، وعليه مواظبون ، وله مؤثرون ، من كثير يفنى ، وجديد يبلى ، كيف أخذ به المخلفون له ، وحوسبوا عليه دون المتنعم به ، فأصبح كل منهم رهنا بما كسبت يداه . وما الله بظلام للعبيد . [ ص: 14 ]

فيا أيها اللبيب المستبصر فيهم تذهب أيامك ضياعا؟ وعما قليل يقع محذورك ، وينزل بك ما اطرحته وراء ظهرك ، فأسلمك عشيرك ، وفر منك قريبك ، فنبذت بالعراء ، وانفضت عنك الدنيا .

فامهد لنفسك أيها المغرور ، واعمل قبل ركوب المضيق وسد الطريق ، فكأني بك قد أدرجت في أطمارك ، وأودعت ملحدك ، وتصدع عنك أقربوك ، واقتسم مالك بنوك ، ورجع القوم يرعون في زهرات موبق دنياك التي كدحت لها وارتحلت عنها ، فأنت كما قال الشاعر:


سترحل عن دنيا قليل بقاؤها     عليك ، وإن تبقى فإنك فان

إن لله عبادا فروا منه إليه فجالت فكرتهم في ملكوت العظمة ، فعزفت عن الدنيا نفوسهم .

أيها الناس ، أين الوليد وأبو الوليد وجد الوليد خلفاء الله ، وأمراء المؤمنين ، وساسة الرعية؟ أسمعهم الداعي ، وقبض العارية معيرها ، فاضمحل ما كان كأن لم يكن ، وأتى ما كأنه لم يزل ، وبلغوا الأمد ، وانقضت بهم المدة ، ورفضتهم الأيام وشمرتهم الحادثات ، فسلبوا عن السلطنة ، ونفضوا لدة الملك ، وذهب عنهم طيب الحياة ، فارقوا والله القصور وسكنوا القبور ، واستبدلوا بلينة الوطاء خشونة الثرى ، فهم رهائن التراب إلى يوم الحساب . فرحم الله عبدا مهد لنفسه ، واجتهد لدينه ، وأخذ بحظه ، وعمل في حياته ، وسعى لصلاحه ، وعمل ليوم ( تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه أيها الناس ، إن الله عز وجل جعل الموت حتما سبق به حكمه ، ونفذ به قدره ، لئلا يطمع أحد في الخلود ، ولا يطغي المعمر عمره ، وليعلم المخلف بعد المقدم أنه غير مخلد . وقد جعل الله الدنيا دارا لا تقوم إلا بأئمة العدل ، ودعاة الحق ، وإن لله عبادا [ ص: 15 ] يملكهم أرضه ، ويسوس بهم عباده ، ويقيم بهم حدوده ، ويجعلهم رعاة عباده ، وقد أصبحت في هذا المقام الذي أنا به غير راغب فيه ، ولا منافس عليه ، ولكنها إحدى الربق أعلقها الواهق مساغ المزدرد ومخرج النفس ، ولولا أن الخلافة تحفة من الله كفر بالله [خلفها] لتمنيت أني كأحد المسلمين يضرب لي بسهمي .

فعلى رسلكم بني الوليد ، فإني شبل عبد الملك ، وناب مروان ، لا تظلعني حمل النائبة ، ولا يفزعني صريف الأجفر . وقد وليت من أمركم ما كنت له مكفيا ، وأصبحت خليفة وأميرا ، وما هو إلا العدل أو النار ، وليجدني الممارس لي أخشن من مضرس الكذاب ، فمن سلك المحجة حذى نعل السلامة ، ومن عدل عن الطريق وقع في وادي الهلكة والضلالة . ألا فإن الله سائل كلا عن كل ، فمن صحت نيته ولزم طاعته كان الله له بصراط التوفيق ، وبرصد المعونة ، وكتب له بسبيل الشكر والمكافأة ، فاقبلوا العافية فقد رزقتموها ، والزموا السلامة فقد وجدتموها ، فمن سلمنا منه سلم منا ، ومن تاركنا تاركناه ، ومن نازعنا نازعناه .

فارغبوا إلى الله في صلاح نياتكم وقبول أعمالكم ، وطاعة سلطانكم ، فإني والله غير مبطل حدا ، ولا تارك له حقا حتى أنكثها عثمانية عمرية ، وقد عزلت كل أمير كرهته رعيته ، ووليت أهل كل بلد من أجمع عليه خيارهم واتفقت عليه كلمتهم ، وقد جعلت الغزو أربعة أشهر ، وفرضت لذرية الغازين سهم المقيمين ، وأمرت بقسمة صدقة كل مصر في أهله إلا سهم العامل عليها ، وفي سبيل الله ، وابن السبيل ، فإن ذلك لي وأنا أولى بالنظر فيه ، فرحم الله امرأ عرف منا سهو المغفل عن مفروض حق أو واجب فأعان برأي ، وأنا أسأل الله العون على صلاحكم فإنه مجيب السائلين ، جعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بموعظته ، ويوفي بعهده فإنه سميع الدعاء ، وأستغفر الله لي ولكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية