الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم

[ ص: 252 ] قرأ جمهور الناس: "تفسحوا" ، وقرأ الحسن وداود بن أبي هند : ، "تفاسحوا" ، وقرأ جمهور القراء: "في المجلس" ، وقرأ عاصم وحده وقتادة ، وعيسى : "في المجالس" .

واختلف الناس في سبب الآية والمقصود بها، فقال ابن عباس ، والحسن ومجاهد : نزلت في مقاعد الحرب والقتال، وقال زيد بن أسلم ، وقتادة : نزلت بسبب تضايق الناس في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم كانوا يتنافسون في القرب منه وسماع كلامه والنظر إليه، فيأتي الرجل الذي له الحق والسن والقدم في الإسلام فلا يجد مكانا، فنزلت بسبب ذلك، وقال مقاتل : أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما ليجلس أشياخ من أهل بدر ونحو ذلك، فنزلت الآية، وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقم أحد من مجلسه ثم يجلس فيه الرجل، ولكن تفسحوا يفسح الله لكم" ، وقال بعض الناس: إنما الآية مخصوصة في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم في سائر المجالس، ويدل على ذلك قراءة من قرأ: "في المجلس" ، ومن قرأ "في المجالس" فذلك مراده أيضا لأن لكل أحد مجلسا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وموضعه، فتجمع لذلك، وقال الجمهور من أهل العلم: السبب مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، والحكم مطرد في سائر المجالس التي هي للطاعات، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أحبكم إلى الله ألينكم مناكب في الصلاة وركبا في المجالس" ، وهذا قول مالك رحمه الله تعالى وقال: ما أرى الحكم إلا يطرد في مجالس العلم ونحوها غابر الدهر، ويؤيد هذا القول قراءة من قرأ: "في المجالس" ، ومن قرأ: "في المجلس" فذلك -على هذا التأويل- اسم جنس، فالسنة المندوب إليها هي التفسح، والقيام منهي عنه، و حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث نهى أن يقوم الرجل فيجلس الآخر مكانه، فأما القيام إجلالا فجائز بالحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم [ ص: 253 ] حين أقبل سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه: "قوموا إلى سيدكم" ، وواجب على المعظم ألا يحب ذلك ويأخذ الناس به، لقوله عليه الصلاة والسلام: "من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار" ،وقوله تعالى: يفسح الله لكم معناه: في رحمته وجنته.

وقوله تعالى: وإذا قيل انشزوا فانشزوا معناه: إذا قيل لكم ارتفعوا وقوموا فافعلوا ذلك، ومنه نشوز العظام، أي: نباتها، والنشز من الأرض: المرتفع، واختلف الناس في هذا النشوز الذي أمروا بامتثاله، ما هو؟ فقال الحسن، والضحاك وقتادة : معناه: إذا دعوا إلى قتال أو طاعة أو صلاة ونحوه، وقال آخرون: إذا دعوا إلى القيام عن النبي صلى الله عليه وسلم; لأنه عليه الصلاة والسلام كان أحيانا يحب الانفراد في آمر الإسلام، فربما جلس قوم وأراد كل أحد أن يكون آخر الناس عهدا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية آمرة بالقيام عنه متى فهم ذلك بقول أو فعل، وقال آخرون: معناه: انشزوا في المجلس بمعنى التفسح; لأن الذي يريد التوسع يرتفع إلى فوق في الهواء، فإذا فعل ذلك جملة اتسع الموضع، فيجيء "انشزوا" في غرض واحد مع قوله تعالى: "تفسحوا"، وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : "انشزوا" برفع الشين، وهي قراءة أبي جعفر ، وشيبة ، و الأعرج . وقرأ ابن كثر، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : "انشذوا" بكسر السين فيها، وهي قراءة الحسن، والأعمش ، وطلحة ، يقال: نشز ينشز كحشر يحشر ويحشر وعكف يعكف ويعكف. وقوله تعالى: "يرفع الله" جواب الأمر.

واختلف الناس في ترتيب قوله تعالى: الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات فقال جماعة من المتأولين: المعنى: يرفع الله المؤمنين العلماء منكم درجات، فلذلك أمر بالتفسح من أجلهم، ويجيء -على هذا- قوله تعالى: والذين أوتوا العلم بمنزلة [ ص: 254 ] قولك: جاءني العاقل والكريم والشجاع، وأنت تريد رجلا واحدا. وقال آخرون: المعنى: يرفع الله المؤمنين والعلماء، الصنفين جميعا درجات، لكنا نعلم تفاضلهم في الدرجات من مواضع أخر، ولذلك جاء الأمر بالتفسح عاما للعلماء وغيرهم. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره: المعنى: "يرفع الله الذين آمنوا منكم "، وتم القول، ثم ابتدأ بتخصيص العلماء بالدرجات، ونصبهم بإضمار فعل، فالمؤمنون رفع على هذا التأويل، وللعلماء درجات، وعلى هذا التأويل قال مطرف بن عبد الله بن الشخير : "فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وخير دينكم الورع"، ثم توعد تعالى وحذر بقوله تعالى: والله بما تعملون خبير .

وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول الآية، روي عن ابن عباس ، وقتادة في سببها أن قوما من شباب المسلمين كثرت مناجاتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في غير حاجة إلا لتظهر منزلتهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سمحا لا يرد أحدا، فنزلت هذه الآية مشددة عليهم في أمر المناجاة، وقال مقاتل : نزلت في الأغنياء لأنهم غلبوا الفقراء على مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى مجلسه. وقال جماعة من الرواة: لم يعمل بهذه الآية بل نسخت قبل العمل، لكن استقر حكمها بالعزم عليه، كأمر إبراهيم عليه السلام في ذبح ابنه عليه السلام، وصح عن علي رضي الله عنه أنه قال: ما عمل بها أحد غيري، وأنا كنت سبب الرخصة والتخفيف عن المسلمين، وذلك أني أردت مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم في أمر ضروري، فصرفت دينارا بعشرة دراهم، ثم ناجيته عشر مرات، أقدم في كل مرة درهما، وروي عنه أنه تصدق في كل مرة بدينار، قال علي رضي الله عنه : ثم فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه العبادة قد شقت على الناس، فقال لي: يا علي، كم ترى أن يكون حد هذه الصدقة; أتراه دينارا؟ قلت: لا، قال فنصف دينار؟ قلت: لا، قال: فكم؟ قلت: حبة من شعير، قال: إنك لزهيد، فأنزل الله تعالى الرخصة للواجدين، وأما من لا يجد فالرخصة له ثابتة بقوله سبحانه: فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم ، وقال مقاتل : بقي هذا الحكم عشرة أيام، وقال قتادة : بقي ساعة من نهار، وقرأ [ ص: 255 ] الجمهور من الناس: "صدقة" بالإفراد، وقرأ بعض القراء: "صدقات" بالجمع.

التالي السابق


الخدمات العلمية