الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولو علم الله فيهم أي: في هؤلاء الصم البكم خيرا أي: شيئا من جنس الخير الذي من جملته صرف قواهم إلى تحري الحق واتباع الهدى لأسمعهم سماع تدبر وتفهم ولوقفوا على الحق وآمنوا بالرسول عليه الصلاة والسلام وأطاعوه ولو أسمعهم سماع تفهم وتدبر وقد علم أن لا خير فيهم لتولوا ولم ينتفعوا به وارتدوا بعد التصديق والقبول وهم معرضون لعنادهم، والجملة حال مؤكدة مع اقترانها بالواو، ومما ذكر يعلم الجواب عما قيل: إن الآية قياس اقتراني من شرطيتين، ونتيجته غير صحيحة لما أنه أشير فيه أولا إلى منع القصد إلى القياس لفقد الكلية الكبرى، وثانيا إلى منع فساد النتيجة إذ اللازم: لو علم الله تعالى فيهم خيرا في وقت لتولوا بعده، قاله بعض المحققين، وفي المعنى والجواب من ثلاثة أوجه؛ اثنان يرجعان إلى منع كون المذكور قياسا؛ وذلك لاختلاف الوسط، أحدهما: أن التقدير لأسمعهم سماعا نافعا ولو أسمعهم سماعا غير نافع لتولوا. والثاني: أن يقدر: ولو أسمعتهم على تقدير علم عدم الخير فيهم كما أشير إليه. والثالث: إلى منع استحالة النتيجة بتقدير كونه قياسيا متحد الوسط، إذ التقدير: ولو علم الله تعالى فيهم خيرا في وقت ما لتولوا بعد ذلك، ولا يخفى ضعف الجواب الأول؛ لأنه لا قرينة على تقييد: لو أسمعهم بالسماع الغير النافع ولأنه يحقق فيهم الإسماع الغير النافع إلا أن يقيد بالأسماع بعد نزول هذه الآية، وكذا ضعف الثالث لأن علمه تعالى بالخير ولو في وقت لا يستلزم التولي بل عدمه. وأما الجواب الثاني فهو قوي لأن الشرطية الأولى قرينة على تقييد الإسماع في الشرطية الثانية بتقدير علم عدم الخير فيهم، وذكر بعضهم في الجواب أن الشرطيتين مهملتان وكبرى الشكل الأول يجب أن تكون كلية ولو سلم فإنما ينتجان أي: اللزومية لو كانتا لزوميتين وهو ممنوع ولو سلم فاستحالة النتيجة ممنوعة، أي: لا نسلم استحالة الحكم باللزوم بين المقدم والتالي وإن كان الطرفان محالين لأن علم الله تعالى فيهم خيرا محال والمحال جاز أن يستلزم المحال وإن لم يوجد بينهما علاقة عقلية على ما هو التحقيق من عدم اشتراط العلاقة في استلزام المحال للمحال.

                                                                                                                                                                                                                                      واعترض على أصل السؤال بأن لفظ (لو) لم يستعمل في فصيح الكلام في القياس الاقتراني وإنما يستعمل في القياس الاستثنائي المستثنى فيه نقيض التالي لأنها لامتناع الشيء غيره، ولهذا لا يصرح باستثناء نقيص التالي، وعلى الجواب بأن فيه تسليم كون ما ذكر قياسا ومنع كونه منتجا لانتفاء شرائط الإنتاج وكيف يصح اعتقاد وقوع قياس في كلام الحكيم تعالى أهملت فيه شرائط الإنتاج وإن لم يكن مراده تعالى قياسيته، وذكر أن الحق أن قوله سبحانه: ولو علم الله فيهم خيرا وارد على قاعدة اللغة؛ يعني أن سبب عدم الإسماع عدم العلم بالخير فيهم ثم ابتدأ قوله تعالى: ولو أسمعهم لتولوا كلاما آخر على طريقة: لو لم يخف الله [ ص: 190 ] تعالى لم يعصه - وحاصل ذلك أنه كلام منقطع عما قبله والمقصود منه تقرير قولهم في جميع الأزمنة حيث ادعى لزومه لما هو مناف له ليفيد ثبوته على تقدير الشرط وعدمه، فمعنى الآية حينئذ أنه انتفى الإسماع لانتفاء علم الخير وأنهم ثابتون على التولي في الشرطية الأولى اللزوم في نفس الأمر وفي الثانية ادعائي فلا يكون على هيئة القياس.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال العلامة الثاني: يجوز أن يكون التولي منفيا بسبب انتفاء الإسماع كما هو مقتضى أصل (لو) لأن التولي بمعنى الإعراض عن الشيء كما هو أصل معناه لا بمعنى مطلق التكذيب والإنكار، فعلى تقدير عدم إسماعهم ذلك الشيء لم يتحقق التولي والإعراض عن الشيء فرع تحققه ولم يلزم من هذا تحقق الانقياد له لأن الانقياد للشيء وعدم الانقياد له ليسا على طرفي النقيض بل العدول والتحصيل لجواز ارتفاعهما بعدم ذلك الشيء وحاصله كما قيل: إنه إذا كان التولي بمعنى الإعراض يجوز أن يكون (لو) بمعناه المشهور، ويكون المقصود الإخبار بأن انتفاء الثاني في الخارج لانتفاء الأول فيه كالشرطية الأولى ولا ينتظم منهما القياس إذ ليس المقصود منهما بيان استلزام الأول للثاني في نفس الأمر ليستدل بل اعتبار السببية واللزوم بينهما ليعلم السببية بين الانتفاءين المعلومين في الخارج، وما يقال من أن انتفاء التولي خير وقد ذكر أن لا خير فيهم مجاب عنه بأن لا نسلم أن انتفاء التولي بسبب انتفاء الإسماع خير لأنه يجوز أن يكون ذلك بسبب عدم الأهلية للسماع وهو داء عضال وشر عظيم، وإنما يكون خيرا لو كانوا من أهله بأن أسمعوا شيئا ثم انقادوا له ولم يعرضوا وهذا كما يقال: لا خير في فلان لو كانت به قوة لقتل المسلمين، فإن عدم قتل المسلمين بناء على عدم القوة والقدرة ليس خيرا فيه وإن كان خيرا له اهـ. ورده الشريف قدس سره بما تعقبه السالكوتي عليه الرحمة. نعم قال مولانا محمد أمين بن صدر الدين: إن حمل التولي هاهنا على معنى الإعراض غير ممكن لمكان قوله سبحانه: وهم معرضون وأوجب أن يحمل إما على لازم معناه وهو عدم الانتقاء لأنه يلزم الإعراض أو على ملزومه وهو الارتداد لأنه يلزمه الإعراض فليفهم، وعن الجبائي أنهم كانوا يقولون لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أحي لنا قصيا فإنه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك ونؤمن بك، فالمعنى: ولو أسمعهم كلام قصي إلخ، وقيل: هم بنو عبد الدار بن قصي لم يسلم منهم إلا مصعب بن عمير وسويد بن حرملة كانوا يقولون: نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد لا نسمعه ولا نجيبه قاتلهم الله تعالى فقتلوا جميعا بأحد وكانوا أصحاب اللواء، وعن ابن جريج أنهم المنافقون، وعن الحسن أنهم أهل الكتاب، والجملة الاسمية في موضع الحال من ضمير (تولوا)، وجوز أن تكون اعتراضا تذييلا أي: وهم قوم عادتهم الإعراض،

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية