الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
المسألة الرابعة

[ وضوء المستحاضة ]

اختلف العلماء في المستحاضة ، فقوم أوجبوا عليها طهرا واحدا فقط ، وذلك عندما ترى أنه قد انقضت حيضتها بإحدى تلك العلامات التي تقدمت على حسب مذهب هؤلاء في تلك العلامات ، وهؤلاء الذين أوجبوا عليها طهرا واحدا انقسموا قسمين : فقوم أوجبوا عليها أن تتوضأ لكل صلاة ، وقوم استحبوا ذلك لها ولم يوجبوه عليها ، والذين أوجبوا عليها طهرا واحدا فقط هم مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابهم وأكثر فقهاء الأمصار ، وأكثر هؤلاء أوجبوا أن تتوضأ لكل صلاة ، وبعضهم لم يوجب عليها إلا استحبابا ، وهو مذهب مالك ، وقوم آخرون غير هؤلاء رأوا أن على المستحاضة أن تتطهر لكل صلاة ، وقوم رأوا أن الواجب أن تؤخر الظهر إلى أول العصر ، ثم تتطهر وتجمع بين الصلاتين ، وكذلك تؤخر المغرب إلى آخر وقتها وهو أول وقت العشاء ، وتتطهر طهرا ثانيا وتجمع بينهما ، ثم تتطهر طهرا ثالثا لصلاة الصبح ، فأوجبوا عليها ثلاثة أطهار في اليوم والليلة ، وقوم رأوا أن عليها طهرا واحدا في اليوم والليلة ، ومن هؤلاء من لم يحد له وقتا ، وهو مروي عن علي .

ومنهم من رأى أن تتطهر من طهر إلى طهر ، فيتحصل في المسألة بالجملة أربعة أقوال : قول : إنه ليس عليها إلا طهر واحد فقط عند انقطاع دم الحيض .

وقول : إن عليها الطهر لكل صلاة .

وقول : إن عليها ثلاثة أطهار في اليوم والليلة .

وقول : إن عليها طهرا واحدا في اليوم والليلة .

[ ص: 55 ] والسبب في اختلافهم في هذه المسألة : هو اختلاف ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك ، وذلك أن الوارد في ذلك من الأحاديث المشهورة أربعة أحاديث : واحد منها متفق على صحته ، وثلاثة مختلف فيها .

أما المتفق على صحته فحديث عائشة قالت " جاءت فاطمة ابنة أبي حبيش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر ، أفأدع الصلاة ؟ فقال لها - عليه الصلاة والسلام - : لا ، إنما ذلك عرق وليست بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة ، فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي " وفي بعض روايات هذا الحديث " وتوضئي لكل صلاة " وهذه الزيادة لم يخرجها البخاري ولا مسلم ، وخرجها أبو داود وصححها قوم من أهل الحديث .

والحديث الثاني : حديث عائشة عن أم حبيبة بنت جحش امرأة عبد الرحمن بن عوف " أنها استحاضت فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل لكل صلاة " وهذا الحديث هكذا أسنده إسحاق عن الزهري ، وأما سائر أصحاب الزهري ، فإنما رووا عنه أنها استحيضت فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لها : " إنما هو عرق وليست بالحيضة " وأمرها أن تغتسل وتصلي ، فكانت تغتسل لكل صلاة على أن ذلك هو الذي فهمت منه ، لا أن ذلك منقول من لفظه - عليه الصلاة والسلام - ومن هذا الطريق خرجه البخاري ، وأما الثالث فحديث أسماء بنت عميس " أنها قالت : يا رسول الله إن فاطمة ابنة أبي حبيش استحيضت ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لتغتسل للظهر والعصر غسلا واحدا ، وللمغرب والعشاء غسلا واحدا ، وتغتسل للفجر ، وتتوضأ فيما بين ذلك " خرجه أبو داود ، وصححه أبو محمد بن حزم .

وأما الرابع : فحديث حمنة ابنة جحش ، وفيه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيرها بين أن تصلي الصلوات بطهر واحد عندما ترى أنه قد انقطع دم الحيض ، وبين أن تغتسل في اليوم والليلة ثلاث مرات على حديث أسماء بنت عميس ، إلا أن هنالك ظاهره على الوجوب ، وهنا على التخيير ، فلما اختلفت ظواهر هذه الأحاديث ذهب الفقهاء في تأويلها أربعة مذاهب : مذهب النسخ ، ومذهب الترجيح ، ومذهب الجمع ، ومذهب البناء ، والفرق بين الجمع والبناء أن الباني ليس يرى أن هنالك تعارضا فيجمع بين الحديثين ، وأما الجامع فهو يرى أن هنالك تعارضا في الظاهر ، فتأمل هذا ، فإنه فرق بين .

أما من ذهب مذهب الترجيح ، فمن أخذ بحديث فاطمة ابنة حبيش لمكان الاتفاق على صحته ، عمل على ظاهره ( أعني من أنه لم يأمرها - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل لكل صلاة ولا أن تجمع بين الصلوات بغسل واحد ، ولا بشيء من تلك المذاهب ) وإلى هذا ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحاب هؤلاء ، وهم الجمهور ، ومن صحت عنده من هؤلاء الزيادة الواردة فيه ، وهو الأمر بالوضوء لكل صلاة أوجب ذلك عليها ، ومن لم تصح عنده لم يوجب ذلك عليها ، وأما من ذهب مذهب البناء فقال : إنه ليس بين حديث فاطمة وحديث أم حبيبة الذي من رواته ابن إسحاق تعارض أصلا ، وأن الذي في حديث أم حبيبة من ذلك زيادة على ما في حديث فاطمة ، فإن حديث فاطمة إنما وقع الجواب فيه عن السؤال ، هل ذلك الدم حيض يمنع الصلاة أم لا ؟ فأخبرها - عليه الصلاة والسلام - أنها ليست بحيضة تمنع الصلاة ولم يخبرها فيه بوجوب الطهر أصلا لكل صلاة ولا عند انقطاع دم الحيض ; وفي حديث أم حبيبة أمرها بشيء واحد وهو التطهر لكل صلاة ، لكن للجمهور أن يقولوا إن [ ص: 56 ] تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، فلو كان واجبا عليها الطهر لكل صلاة لأخبرها بذلك ، ويبعد أن يدعي مدع أنها كانت تعرف ذلك مع أنها كانت تجهل الفرق بين الاستحاضة والحيض .

وأما تركه - عليه الصلاة والسلام - إعلامها بالطهر لواجب عليها عند انقطاع دم الحيض ، فمضمن في قوله : " إنها ليست بالحيضة " ; لأنه كان معلوما من سنته - عليه الصلاة والسلام - أن انقطاع الحيض يوجب الغسل ، فإذا إنما لم يخبرها بذلك لأنها كانت عالمة به ، وليس الأمر كذلك في وجوب الطهر لكل صلاة إلا أن يدعي مدع أن هذه الزيادة لم تكن قبل ثابتة وثبتت بعد ، فيتطرق إلى ذلك المسألة المشهورة : هل الزيادة نسخ أم لا ؟ وقد روي في بعض طرق حديث فاطمة أمره - عليه الصلاة والسلام - لها بالغسل ، فهذا هو حال من ذهب مذهب الترجيح ومذهب البناء ، وأما من ذهب مذهب النسخ فقال : إن حديث أسماء بنت عميس ناسخ لحديث أم حبيبة ، واستدل على ذلك بما روي عن عائشة " أن سهلة بنت سهيل استحيضت ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمرها بالغسل عند كل صلاة ، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر في غسل واحد ، والمغرب والعشاء في غسل واحد ، وتغتسل غسلا ثالثا للصبح " وأما الذين ذهبوا مذهب الجمع فقالوا : إن حديث فاطمة ابنة حبيش محمول على التي تعرف أيام الحيض من أيام الاستحاضة ، وحديث أم حبيبة محمول على التي لا تعرف ذلك ، فأمرت بالطهر في كل وقت احتياطا للصلاة ، وذلك أن هذه إذا قامت إلى الصلاة يحتمل أن تكون طهرت فيجب عليها أن تغتسل لكل صلاة .

وأما حديث أسماء ابنة عميس فمحمول على التي لا يتميز لها أيام الحيض من أيام الاستحاضة ، إلا أنه قد ينقطع عنها في أوقات فهذه إذا انقطع عنها الدم وجب عليها أن تغتسل وتصلي بذلك الغسل صلاتين .

وهنا قوم ذهبوا مذهب التخيير بين حديثي أم حبيبة وأسماء واحتجوا لذلك بحديث حمنة بنت جحش وفيه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيرها " وهؤلاء منهم من قال : إن المخيرة هي التي لا تعرف أيام حيضتها .

ومنهم من قال : بل هي المستحاضة على الإطلاق عارفة كانت أو غير عارفة ، وهذا هو قول خامس في المسألة ، إلا أن الذي في حديث حمنة ابنة جحش إنما هو التخيير بين أن تصلي الصلوات كلها بطهر واحد ، وبين أن تتطهر في اليوم والليلة ثلاث مرات .

وأما من ذهب إلى أن الواجب أن تطهر في كل يوم مرة واحدة ، فلعله إنما أوجب ذلك عليها لمكان الشك ، ولست أعلم في ذلك أثرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية