الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
اختيار هذا الخط
الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
قوله : " ويصح التمسك بالإجماع فيما لا تتوقف صحة الإجماع عليه " أي : nindex.php?page=treesubj&link=21617كل أمر تتوقف عليه صحة الإجماع ، لم يجز إثبات ذلك الأمر بالإجماع ، لأن الإجماع فرع ذلك الأمر ، لتوقفه عليه ، فلو أثبتنا ذلك الأمر بالإجماع ، لكان ذلك إثباتا للأصل بالفرع وهو دور .
مثاله : أن nindex.php?page=treesubj&link=21682_21681_21679الإجماع متوقف على ثبوت الرسالة ، لتوقفه على ما صدر عنها من كتاب وسنة ، فلا يصح إثبات النبوة بالإجماع ، لئلا يلزم الدور بالطريق المذكور .
وأما nindex.php?page=treesubj&link=21617ما لا تتوقف صحة الإجماع عليه ، فيصح إثباته بالإجماع ، لأن الإجماع ليس فرعا ، فلا يلزم من إثباته بالإجماع دور محذور ، ولا غيره .
مثاله : الوحدانية ، وحدوث العالم ، لا يتوقف عليهما صحة الإجماع ، فيجوز التمسك في إثباتهما بالإجماع .
قلت : هذه القاعدة قد عهدت وعرفت ، وهي أن ما توقف عليه صحة الإجماع ، لم يثبت بالإجماع ، وما لا يتوقف عليه صحة الإجماع ; يثبت بالإجماع ، لكن الكلام في أمثلة ذلك ، فالتمثيل فيما تتوقف عليه [ ص: 132 ] صحة الإجماع بالرسالة صحيح .
وذكر القرافي مما تتوقف عليه صحة الإجماع وجود الصانع ، وقدرته ، وعلمه ، لأن هذه الأشياء شروط في صحة الإجماع ، لأن صحة الإجماع فرع النبوة ، والنبوة فرع الربوبية ؛ والوجود ، والقدرة ، والعلم ، والإرادة ، والحياة من شروط الربوبية ، فهي إذن شروط لأصل أصل الإجماع ، وشرط الأصل شرط للفرع ، وحينئذ يمتنع إثبات هذه الأشياء بالإجماع ، لأنها شروط ، وإثبات الشرط بمشروطه دور ، لتوقف المشروط على الشرط .
وذكر مما لا تتوقف عليه صحة الإجماع الوحدانية ، وحدوث العالم ; قال : فإن صحة الإجماع لا تتوقف عليه إلا بالنظر البعيد . وذكر في تقرير ذلك كلاما صحيحا ، وإن نفر منه بعض من لا يفهمه أو من يفهمه في بادئ الرأي .
قوله : " وفي الدنيوية كالآراء في الحروب خلاف " أي : إن كان ما لا تتوقف صحة الإجماع عليه أمرا دينيا ، جاز التمسك فيه بالإجماع إجماعا ، وإن كان من الأمور الدنيوية " كالآراء في الحروب " ومكايدة العدو ، وسياسات العساكر ونحو ذلك ، ففيه " خلاف " .
مأخذه : أن الدليل السمعي الدال على عصمة الأمة ; هل دل على عصمتها مطلقا على العموم ، أو في خصوص الأمور الدينية ، وما يخبرون به عن الله سبحانه وتعالى ؟ والأظهر التعميم ، وأنه لا تجوز مخالفة ما اتفقوا عليه [ ص: 133 ] من الآراء في الحروب ونحوها .
قال القاضي عبد الوهاب : وهو الأشبه بمذهب مالك ، غير أني لا أحفظ فيه عن أصحابنا شيئا .
قلت : الخلاف في هذه المسألة لا أحسبه يتصور ، وإن تصور ، فهو منزل على اختلاف حالين .
أما أنه لا يتصور : فلأن المراد بالأمور الدينية ما كانت ثمرتها ومقصودها متعلقا بالدين ، وراجعا إليه ، خاصا به ، سواء كان وقوعه في الدنيا ، كالإجماع على وجوب الصلاة وشروطها ، أو في الآخرة ، كالإجماع على فتنة القبر ، ونصب الموازين ونحو ذلك .
وعند ذلك نقول : الحروب والآراء فيها : إن كانت جهادا في سبيل الله ، فهي من الأمور الدينية ، ولا خلاف في صحة التمسك فيها بالإجماع ، وإن كانت عصبية ، أو بغيا ، أو طلبا للدنيا ، أو إظهارا للفخر ، والخيلاء ، والغلبة على الخصم ; فأصل تلك الحروب محرمة ، فالآراء ، والتدبير ، والمكيدة فيها أمور محرمة ، nindex.php?page=treesubj&link=21682والمحرمات لا يتصور التمسك فيها بالإجماع ، إذ التمسك بالإجماع إنما يجوز فيما له أصل في الجواز ، فما لا أصل له في الجواز ، لا يتصور التمسك فيه بالإجماع ، فيكون التمسك فيه بالإجماع كالتمسك على جواز شرب الخمر ، أو أكل الميتة ، أو الخنزير ، أو بيعها بالإجماع ، وهو محال شرعا .
وإن وجد حرب ، وقتال مشوب بقصد الجهاد والعصبية والتكثر من [ ص: 134 ] الدنيا ; كان ذلك من ذوات الجهتين ، فيصح التمسك بالإجماع فيه من حيث هو جهاد ديني ، لا من حيث هو معصية دنيوية .
وأما أن الخلاف في المسألة إن تصور نزل على اختلاف حالين ، فقد بان بما تقدم ; وهو أن يقال : إن كان الحرب جهادا في سبيل الله ، جاز التمسك فيه بالإجماع ، وإن كان قتال معصية ، أو لم يكن طاعة ، لم يجز ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .
تنبيه : اختلف في nindex.php?page=treesubj&link=21622إجماع الأمم السالفة ; هل كان حجة ؟ فقيل : لا ، وهو من خصائص هذه الأمة .
قال nindex.php?page=showalam&ids=11815أبو إسحاق الشيرازي : وهو قول الأكثرين ، وقيل : إجماع كل أمة حجة ، ولم يزل ذلك في الملل ، وهو قول nindex.php?page=showalam&ids=11812أبي إسحاق الإسفراييني .
وقال إمام الحرمين : إن قطع أهل الإجماع من كل أمة بقولهم ، فهو حجة ، لاستناده إلى قاطع في العادة ، والعادة لا تختلف باختلاف الأمم ، وإلا كان مستنده مظنونا ، والوجه الوقف .
وقال القاضي أبو بكر : لست أدري كيف كان الحال ، يعني هل كان إجماعهم حجة أم لا ؟
قلت : فقد تلخص في المسألة أقوال : ثالثها : الوقف ، وهو قول القاضي أبي بكر . وقول nindex.php?page=showalam&ids=12441إمام الحرمين أقرب فيها إلى الصواب .
والمختار في المسألة : أن مستند الإجماع في هذه الأمة ، إن كان عقليا ; فإجماع كل أمة حجة على حسب إجماع هذه الأمة في مراتبه ، إذ المدارك العقلية لا تختلف ، وإن كان مستند إجماع هذه الأمة سمعيا ، فالوقف في [ ص: 135 ] إجماع غيرها من الأمم ، إذ لم يبلغنا الدليل السمعي على أن إجماعهم حجة ، فنثبته ، ولا يلزم من عدم بلوغ ذلك لنا عدم وجوده فننفيه ، وهذه المسألة من رياضات الفن ، لا يترتب عليها كبير فائدة ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .
قوله : " وفي أقل ما قيل ، كدية الكتابي الثلث ، به وبالاستصحاب لا به فقط " أي : والتمسك " في أقل ما قيل " أو الأخذ بأقل الأقوال ، ليس تمسكا بالإجماع فقط ، بل " به وبالاستصحاب " وذلك " كدية الكتابي " ; اختلف في مقادرها ، فقيل مثل دية المسلم ، وقيل : نصفها ، وقيل : ثلثها ، والقائل إنها الثلث وهو nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ومن تابعه ليس تمسكا بالإجماع فقط ، لأن المجمع عليه من ذلك إنما هو إثبات الثلث ، أما نفي الزائد عنه ، فليس مجمعا عليه ، وإلا كان مثبته خارقا للإجماع ، فثبت بهذا أن الآخذ بالأقل ; إنما تمسك بالإجماع في إثباته ، وباستصحاب الحال في نفي الزيادة عليه . وهذا معنى قوله : " إذ الأقل مجمع عليه دون نفي الزيادة " .
وقد اختلف في أن الآخذ بالأقل ، هل هو آخذ بالإجماع ؟ وهو منزل على ما ذكرناه ، وهو التحقيق . وقد أشرت إلى هذا الخلاف بقولي : " لا به فقط " والله أعلم .