الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              وأما العتق والطلاق : فإن موجب الكلام وجودهما ، فإذا وجد الشرط وجد العتق والطلاق . وإذا وقعا لم يرتفعا بعد وقوعهما ؛ لأنهما لا يقبلان الفسخ ، بخلاف ما لو قال : إن فعلت كذا فلله علي أن أعتق . فإنه هنا لم يعلق العتق ، وإنما علق وجوبه بالشرط ، فيخير بين فعل هذا الإعتاق الذي أوجبه على نفسه وبين الكفارة التي هي بدل عنه ، ولهذا لو قال : إذا مت فعبدي حر ، عتق بموته من غير حاجة [ ص: 325 ] إلى الإعتاق ، ولم يكن له فسخ هذا التدبير عند الجمهور إلا قولا للشافعي ، ورواية عن أحمد ، وفي بيعه الخلاف المشهور . ولو وصى بعتقه فقال : إذا مت فأعتقوه ، كان له الرجوع في ذلك كسائر الوصايا ، [ وكان له بيعه هنا ، وإن لم يجز بيع المدبر ] .

              ذكر أبو عبد الله إبراهيم بن محمد [ بن محمد ] بن عرفة في تاريخه : أن المهدي لما رأى ما أجمع عليه رأي أهل بيته من العهد [ إلى ابنه ] عزم على خلع عيسى ودعاهم إلى البيعة لموسى ، فامتنع عيسى من الخلع ، وزعم أن عليه أيمانا تخرجه من أملاكه وتطلق نساءه ، فأحضر له المهدي ابن علاثة ومسلم بن خالد الزنجي وجماعة من الفقهاء ، فأفتوه بما يخرجه عن يمينه ، واعتاض عما يلزمه في يمينه [ بمال كثير ذكره ] ولم يزل به إلى أن خلع نفسه وبويع للمهدي ولموسى الهادي بعده .

              وأما أبو ثور فقال في العتق المعلق على وجه اليمين : يجزئه كفارة يمين ، كنذر اللجاج والغضب ؛ لأجل ما تقدم من حديث ليلى بنت العجماء التي أفتاها عبد الله بن عمر وحفصة أم المؤمنين ، وزينب ربيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكفارة يمين في قولها : " إن لم أفرق بينك وبين امرأتك فكل مملوك لي محرر " . وهذه القصة هي مما اعتمده الفقهاء المستدلون في مسألة نذر اللجاج والغضب ، لكن توقف أحمد وأبو عبيد عن العتق فيها لما ذكرته من الفرق ، وعارض أحمد ذلك .

              وأما الطلاق فلم يبلغ أبا ثور فيه أثر فتوقف عنه ، مع أن [ ص: 326 ] القياس عنده مساواته للعتق ، لكن خاف أن يكون مخالفا للإجماع .

              والصواب : أن الخلاف في الجميع - في الطلاق وغيره - كما سنذكره ، ولو لم ينقل في الطلاق نفسه خلاف معين لكان فتيا من أفتى من الصحابة في الحلف بالعتاق بكفارة يمين من باب التنبيه على الحلف بالطلاق . فإنه إذا كان نذر العتق الذي هو قربة لما خرج مخرج اليمين أجزأت فيه الكفارة ، فالحلف بالطلاق الذي ليس بقربة : إما أن تجزئ فيه الكفارة ، [ أو لا ] يجب فيه شيء على قول من يقول : نذر غير الطاعة لا شيء فيه . ويكون قوله : " إن فعلت كذا فأنت طالق " بمنزلة قوله : " فعلي أن أطلقك " ، كما كان عند أولئك الصحابة ومن وافقهم قوله : " فعبيدي أحرار " بمنزلة قوله : " فعلي أن أعتقهم " .

              على أني إلى الساعة لم يبلغني عن أحد من الصحابة كلام في الحلف بالطلاق ، وذاك - والله أعلم - لأن الحلف بالطلاق لم يكن قد حدث في زمانهم ، وإنما ابتدعه الناس في زمن التابعين ومن بعدهم ، فاختلف فيه التابعون ومن بعدهم ، فأحد القولين : أنه يقع به كما تقدم ، والقول الثاني : أنه لا يلزمه الوقوع . ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان يقول : الحلف بالطلاق ليس شيئا ، قلت : أكان يراه يمينا ؟ قال : لا أدري .

              فقد أخبر ابن طاوس عن أبيه أنه كان لا يراه موقعا للطلاق ، وتوقف في كونه يمينا يوجب الكفارة ؛ لأنه من باب نذر ما لا قربة فيه . وفي كون مثل هذا يمينا خلاف مشهور . وهذا قول أهل الظاهر ، كداود وأبي محمد بن حزم ، لكن بناء على أنه لا يقع طلاق معلق ولا عتق معلق .

              [ ص: 327 ] واختلفوا في المؤجل ، وهو بناء على ما تقدم من أن العقود لا يصح منها إلا ما دل نص أو إجماع على وجوبه أو جوازه ، وهو مبني على ثلاث مقدمات يخالفون فيها :

              إحداها : كون الأصل تحريم العقود .

              الثانية : أنه لا يباح إلا ما كان في معنى المنصوص .

              الثالثة : أن الطلاق المؤجل والمعلق لم يندرج في عموم النصوص .

              وأما المأخذ المتقدم من كون هذا كنذر اللجاج والغضب [ فهذا قياس قول الذين جوزوا التكفير في نذر اللجاج والغضب ] وفرقوا بين نذر التبرر ونذر الغضب ، فإن هذا الفرق يوجب الفرق بين المعلق الذي يقصد وقوعه عند الشرط ، وبين المعلق المحلوف به الذي يقصد عدم وقوعه ، إلا أن يصح الفرق المذكور بين كون المعلق هو الوجود أو الوجوب . وسنتكلم عليه .

              وقد ذكرنا أن هذا القول يخرج على أصول أحمد من مواضع ذكرناها . وكذلك هو أيضا لازم لمن قال في نذر اللجاج والغضب بكفارة ، كما هو ظاهر مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة ، التي اختارها أكثر متأخري أصحابه ، وإحدى الروايتين عن ابن القاسم ، التي اختارها كثير من متأخري المالكية . فإن التسوية بين الحلف بالنذر والحلف بالعتق هو المتوجه . ولهذا كان هذا من أقوى حجج القائلين بوجوب الوفاء في الحلف بالنذر ، فإنهم قاسوه على الحلف بالطلاق والعتاق ، واعتقده بعض المالكية مجمعا عليه .

              [ ص: 328 ] وأيضا فإذا حلف بصيغة القسم ، كقوله : عبيدي أحرار لأفعلن ، أو نسائي طوالق لأفعلن ، فهو بمنزلة قوله : مالي صدقة لأفعلن ، وعلي الحج لأفعلن .

              والذي يوضح التسوية : أن الشافعي إنما اعتمد في الطلاق المعلق على فدية الخلع ، فقال في البويطي - وهو كتاب مصري من أجود كتبه - : وذلك أن الفقهاء يسمون الطلاق المعلق بسبب : طلاقا بصفة ، ويسمون ذلك الشرط صفة . ويقولون : " إذا وجدت الصفة في زمان البينونة ، وإذا لم توجد الصفة " ، ونحو ذلك .

              وهذه التسمية لها وجهان :

              أحدهما : أن هذا الطلاق موصوف بصفة ، ليس طلاقا مجردا عن صفة . فإنه إذا قال : أنت طالق في أول السنة ، أو إذا طهرت ، فقد وصف الطلاق بالزمان الخاص . فإن الظرف صفة للمظروف . وكذلك إذا قال : إن أعطيتني ألفا فأنت طالق ، فقد وصفه بعوضه .

              والثاني : أن نحاة الكوفة يسمون حروف الجر ونحوها حروف الصفات . فلما كان هذا معلقا بالحروف التي قد تسمى حروف الصفات ، سمي طلاقا بصفة ، كما لو قال : أنت طالق بألف .

              والوجه الأول هو الأصل ، فإن هذا يعود إليه ، إذ النحاة إنما سموا حروف الجر حروف الصفات ؛ لأن الجار والمجرور يصير في المعنى صفة لما تعلق به .

              فإذا كان الشافعي وغيره إنما اعتمدوا في الطلاق الموصوف على طلاق الفدية المذكور في القرآن ، وقاسوا كل طلاق بصفة عليه ، صار هذا كما أن النذر المعلق بشرط مذكور في قوله : ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين [ ص: 329 ] [ التوبة ] . ومعلوم أن النذر المعلق بشرط هو نذر بصفة ، وقد فرقوا بين النذر المقصود شرطه ، وبين النذر المقصود عدم شرطه الذي خرج مخرج اليمين . [ فكذلك ] يفرق بين الطلاق المقصود وصفه كالخلع ؛ حيث المقصود فيه العوض ، والطلاق المحلوف به ، الذي يقصد عدمه وعدم شرطه ، فإنه إنما يقاس بما في الكتاب والسنة ما أشبهه . ومعلوم ثبوت الفرق بين الصفة المقصودة وبين الصفة المحلوف عليها التي يقصد عدمها ، كما فرق بينهما في النذر سواء . والدليل على هذا القول : الكتاب والسنة والأثر والاعتبار .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية