الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              الحيلة الرابعة : السريجية ، في إفساد المحلوف به أيضا ، لكن [ ص: 355 ] لوجود مانع ، لا لفوات شرط . فإن أبا العباس بن سريج وطائفة بعده اعتقدوا أنه إذا قال لامرأته : إذا وقع عليك طلاقي أو طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثا ؛ أنه لا يقع بعد ذلك عليها طلاق أبدا ؛ لأنه إذا وقع المنجز لزم وقوع المعلق ، فإذا وقع المعلق امتنع وقوع المنجز ، فيفضي وقوعه إلى عدم وقوعه فلا يقع . وأما عامة فقهاء الإسلام من جميع الطوائف فأنكروا ذلك ، بل رأوه من الزلات التي يعلم بالاضطرار كونها ليست من دين الإسلام ؛ حيث قد علم بالضرورة من دين محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن الطلاق أمر مشروع في كل نكاح ، وأنه ما من نكاح إلا ويمكن فيه الطلاق .

              وسبب الغلط : أنهم اعتقدوا صحة هذا الكلام ، فقالوا : إذا وقع المنجز وقع المعلق ، وهذا الكلام ليس بصحيح ، فإنه يستلزم وقوع طلقة مسبوقة بثلاث ، ووقوع طلقة مسبوقة بثلاث ممتنع في الشريعة ، والكلام المشتمل على ذلك باطل ، وإذا كان باطلا لم يلزم من وقوع المنجز وقوع المعلق ؛ لأنه إنما يلزم إذا كان التعليق صحيحا .

              ثم اختلفوا : هل يقع من المعلق تمام الثلاث ، أم يبطل التعليق ولا يقع إلا المنجز ؟ على قولين في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما .

              وما أدري : هل استحدث ابن سريج هذه المسألة للاحتيال على رفع الطلاق ، أم قالها طردا لقياس اعتقد صحته ، واحتال بها من بعده ؟ لكني رأيت مصنفا لبعض المتأخرين بعد المائة الخامسة صنفه في هذه المسألة ، ومقصوده بها الاحتيال على عدم وقوع الطلاق . ولهذا صاغوها بقولهم : إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا ؛ لأنه لو قال : إذا طلقتك فأنت طالق [ قبله ] ثلاثا : لم تنفعه هذه [ ص: 356 ] الصيغة في الحيلة ، وإن كان كلاهما في الدور سواء ، وذلك لأن الرجل إذا قال لامرأته : إذا طلقتك فعبدي حر ، أو فأنت طالق ، لم يحنث إلا بتطليق ينجزه بعد هذه اليمين ، أو يعلقه بعدها على شرط فيوجد ، فإن كل واحد من المنجز والمعلق الذي وجد شرطه تطليق . أما إذا كان قد علق طلاقها قبل هذه اليمين بشرط ووجد الشرط بعد هذه اليمين : لم يكن مجرد وجود الشرط ووقوع الطلاق به تطليقا ؛ لأن التطليق لا بد أن يصدر عن المطلق ، [ ووجود ] الطلاق بصفة يفعلها غيره ليس فعلا منه . فأما إذا قال : إذا وقع عليك طلاقي ، فهذا يعم المنجز والمعلق بعد هذا بشرط ، والواقع بعد هذا بشرط تقدم تعليقه .

              فصوروا المسألة بصورة قوله : إذا وقع عليك طلاقي ، حتى إذا حلف الرجل بالطلاق لا يفعل شيئا ، قالوا له : قل : إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا ، فيقول ذلك ، فيقولون له : افعل الآن ما حلفت عليه ، فإنه لا يقع عليك طلاق .

              فهذا التسرج المنكر عند عامة أهل الإسلام ، المعلوم يقينا أنه ليس من الشريعة التي بعث الله بها محمدا - صلى الله عليه وسلم ، إنما نفقه في الغالب ما أحوج كثيرا من الناس إليه من الحلف بالطلاق ، وإلا فلولا ذلك لم يدخل فيه أحد ؛ لأن العاقل لا يكاد يقصد سد باب الطلاق عليه إلا نادرا .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية