الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          قالوا : فلو مات في الماء ضفدع أو ذباب أو زنبور أو [ ص: 149 ] عقرب أو خنفساء أو جراد أو نمل أو صرار أو سمك فطفا أو كل ما لا دم له ، فإن الماء طاهر جائز الوضوء به والغسل ، والسمك الطافي عندهم لا يحل أكله .

                                                                                                                                                                                          وكذلك إن مات كل ذلك في مائع غير الماء فهو طاهر حلال أكله ، قالوا : فإن ماتت في الماء أو في مائع غيره حية فقد تنجس ذلك الماء وذلك المائع ، لأن لها دما ، فإن ذبح كلب أو حمار أو سبع ثم رمي كل ذلك في راكد لم يتنجس ذلك الماء ، وإن ذلك اللحم حرام لا يحل أكله ، وهكذا كل شيء إلا الخنزير وابن آدم ، فإنهما وإن ذبحا ينجسان الماء .

                                                                                                                                                                                          قال علي : فمن يقول هذه الأقوال - التي كثير مما يأتي به المبرسم أشبه منها - ألا يستحي من أن ينكر على من اتبع أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم وموجبات العقول في فهم ما أمر الله تعالى به على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ولم يتعد حدود ما أمر الله تعالى به ولكن ما رأينا سنة مضاعة ، إلا ومعها بدعة مذاعة . وهذه أقوال لو تتبع ما فيها من التخليط لقام في بيان ذلك سفر ضخم ، إذ كل فصل منها مصيبة في التحكم والفساد والتناقض ، وإنها أقوال لم يقلها قط أحد قبلهم ، ولا لها حظ من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ، ولا من قياس يعقل ، ولا من رأي سديد ، ولا من باطل مطرد ، ولكن من باطل متخاذل في غاية السخافة .

                                                                                                                                                                                          والعجب أنهم موهوا برواية عن ابن عباس وابن الزبير : أنهما نزحا زمزم من زنجي مات فيها ، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن إبراهيم النخعي وعطاء والشعبي والحسن وحماد بن أبي سليمان وسلمة بن كهيل .

                                                                                                                                                                                          قال علي بن أحمد : وكل ما روي عن هؤلاء الصحابة وهؤلاء التابعين رضي الله عنهم فمخالف لأقوال أبي حنيفة وأصحابه .

                                                                                                                                                                                          أما علي فإننا روينا عنه أنه قال في فأرة وقعت في بئر فماتت : إنه ينزح ماؤها ، وأنه قال في فأرة وقعت في بئر فقطعت : يخرج منها سبع دلاء ، فإن كانت الفأرة كهيئتها لم تتقطع ينزح منها دلو أو دلوان ، فإن كانت منتنة ينزح من البئر ما يذهب الريح ، وهاتان الروايتان ليست واحدة منهما قول أبي حنيفة أصلا .

                                                                                                                                                                                          وأما الرواية عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهما ، فلو صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجب بذلك فرض نزح البئر مما يقع فيها من النجاسات ، فكيف عمن دونه عليه السلام ، لأنه ليس فيه أنهما أوجبا نزحها ولا أمرا به ، وإنما هو فعل منهما قد يفعلانه عن طيب النفس ، لا على أن ذلك واجب ، فبطل تعلقهم بفعل ابن عباس [ ص: 150 ] وابن الزبير ، وأيضا فإن في الخبر نفسه أنه قيل لابن عباس : قد غلبتنا عين من جهة الحجر ، فأعطاهم كساء خز فحشوه فيها حتى نزحوها ، وليس هذا قول أبي حنيفة وأصحابه ، لأن حد النزح عند أبي حنيفة أن يغلبهم الماء فقط ، وعند محمد مائتا دلو فقط ، وعند أبي يوسف كقول أبي حنيفة ، فمن أضل ممن يحتج بخبر - يقضي بأنه حجة على من لا يراه حجة - ثم يكون المحتج به أول مخالف لما احتج فكيف ولو صح أنهما رضي الله عنهما أمرا بنزحها لما كان للحنفيين في ذلك حجة ، لأنه لا يجوز أن يظن بهم ، إلا أن زمزم تغيرت بموت الزنجي . وهذا قولنا ، ويؤيد هذا صحة الخبر عن ابن عباس الذي رويناه من طريق وكيع عن زكرياء بن أبي زائدة عن الشعبي عن ابن عباس : أربع لا تنجس ، الماء والثوب والإنسان والأرض . وقد روينا عن عمر بن الخطاب أن الله جعل الماء طهورا .

                                                                                                                                                                                          وأما التابعون المذكورون ، فإن إبراهيم النخعي قال : في الفأرة أربعون دلوا وفي السنور أربعون دلوا ، وقال الشعبي في الدجاجة سبعون دلوا ، وقال حماد بن أبي سليمان في السنور ثلاثون دلوا ، وفي الدجاجة ثلاثون دلوا . وقال سلمة بن كهيل في الدجاجة أربعون دلوا ، وقال الحسن في الفأرة أربعون دلوا ، وقال عطاء في الفأرة عشرون دلوا ، وفي الشاة تموت في البئر أربعون دلوا ، فإن تفسخت فمائة دلو أو تنزح ، وفي الكلب يقع في البئر ، إن أخرج منها حيا عشرون دلوا ، فإن مات فأخرج حين موته فستون دلوا ، فإن تفسخ فمائة دلو أو تنزح ، فهل من هذه الأقوال قول يوافق أقوال أبي حنيفة وأصحابه إلا قول عطاء في الفأرة دون أن يقسم تقسيم أبي حنيفة ، وقول إبراهيم في السنور دون أن يقسم أيضا تقسيم أبي حنيفة ، فلم يحصلوا إلا على خلاف الصحابة والتابعين كلهم فلا تعلق بشيء من السنن أو المقاييس . ومن عجيب ما أوردنا عنهم قولهم في بعض أقوالهم : إن ماء وضوء المسلم الطاهر النظيف أنجس من الفأرة الميتة ولو أوردنا التشنيع عليهم بالحق لألزمناهم ذلك في وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فإما أن يتركوا قولهم ، وإما أن يخرجوا عن الإسلام أو في وضوء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم .

                                                                                                                                                                                          وقولهم : إن حرك طرفه لم يتحرك الطرف الآخر ، فليت شعري هذه الحركة بماذا تكون أبإصبع طفل ، أم بتبنة ، أو بعود مغزل ، أو بعوم عائم ، أو بوقوع فيل ، أو بحصاة صغيرة أو بحجر منجنيق ، أو بانهدام جرف ؟ نحمد الله على السلامة من هذه التخاليط ، لا سيما فرقهم في ذلك بين [ ص: 151 ] الماء وسائر المائعات ، فإن ادعوا فيه إجماعا ، قلنا لهم : كذبتم ، هذا ابن الماجشون يقول : إن كل ماء أصابته نجاسة فقد تنجس ، إلا أن يكون غديرا إذا حرك وسطه لم تتحرك أطرافه .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية