الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وقوله :


فإن كنت قد ساءتك مني خليقة فسلي ثيابي من ثيابك تنسل     وما ذرفت عيناك إلا لتضربي
بسهميك في أعشار قلب مقتل



البيت الأول قد قيل في تأويله : إنه ذكر الثوب وأراد البدن ، مثل قول الله تعالى : وثيابك فطهر . وقال أبو عبيدة : هذا مثل للهجر . وتنسل : تبين .

وهو بيت قليل المعنى ، ركيكه ووضيعه . وكل ما أضاف إلى نفسه ووصف به نفسه سقوط وسفه وسخف ، يوجب قطعه . فلم لم يحكم على نفسه بذلك ، ولكن يورده مورد أن ليست له خليقة توجب هجرانه والتفصي من وصله ، وأنه مهذب الأخلاق ، شريف الشمائل ؛ فذلك يوجب أن لا ينفك من وصاله .

[ ص: 170 ] والاستعارة في المصراع الثاني فيها تواضع وتقارب ، وإن كانت غريبة .

وأما البيت الثاني فمعدود من محاسن القصيدة وبدائعها . ومعناه : ما بكيت إلا لتجرحي قلبا معشرا - أي مكسرا - من قولهم : " برمة أعشار " إذا كانت قطعا . هذا تأويل ذكره الأصمعي ، وهو أشبه عند أكثرهم .

وقال غيره : وهذا مثل للأعشار التي تقسم الجزور عليها . ويعني بسهميك : المعلى ، وله سبعة أنصباء ، والرقيب ، وله ثلاثة أنصباء . فأراد أنك ذهبت بقلبي أجمع .

ويعني بقوله : مقتل : مذلل .

وأنت تعلم أنه على ما يعني به فهو غير موافق للأبيات المتقدمة ؛ لما فيها من التناقض الذي بينا .

ويشبه أن يكون من قال بالتأويل الثاني ، فزع إليه لأنه رأى اللفظ مستكرها على المعنى الأول ، لأن القائل إذا قال : " ضرب فلان بسهمه في الهدف " ، بمعنى أصابه - كان كلاما ساقطا مرذولا ، وهو يرى أن معنى الكلمة أن عينيها كالسهمين النافذين في إصابة قلبه المجروح ، فلما بكتا وذرفتا بالدموع كانتا ضاربتين في قلبه .

ولكن من حمل على التأويل الثاني سلم من الخلل الواقع في اللفظ ، ولكنه يفسد المعنى ويختل ؛ لأنه إن كان محبا - على ما وصف به نفسه من الصبابة - فقلبه كله لها ، فكيف يكون بكاؤها هو الذي يخلص قلبه لها ؟ !

واعلم بعد هذا أن البيت غير ملائم للبيت الأول ، ولا متصل به في المعنى ، [ ص: 171 ] وهو منقطع عنه ؛ لأنه لم يسبق كلام يقتضي بكاءها ، ولا سبب يوجب ذلك ؛ فتركيبه هذا الكلام على ما قبله فيه اختلال .

ثم لو سلم له بيت من عشرين بيتا ، وكان بديعا ولا عيب فيه - فليس بعجيب ؛ لأنه لا يدعى على مثله أن كلامه كله متناقض ، ونظمه كله متباين .

وإنما يكفي أن نبين أن ما سبق من كلامه إلى هذا البيت ، مما لا يمكن أن يقال إنه يتقدم فيه أحدا من المتأخرين ، فضلا عن المتقدمين .

وإنما قدم في شعره لأبيات قد برع فيها ، وبان حذقه بها .

وإنما أنكرنا أن يكون شعره متناسبا مع الجودة ، ومتشابها في صحة المعنى واللفظ ، وقلنا : إنه يتصرف بين وحشي غريب مستنكر ، وعربية كالمهمل مستكرهة ، وبين كلام سليم متوسط ، وبين عامي سوقي في اللفظ والمعنى ، وبين حكمة حسنة ، وبين سخف مستشنع . ولهذا قال الله - عز اسمه - : ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا .

* *

التالي السابق


الخدمات العلمية