الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

عمرو بن العاص (القائد المسلم والسفير الأمين) [الجزء الثاني]

اللواء الركن / محمود شيت خطاب

10 - وكانت له نفسية لا تتبدل في حالتي النصر والاندحار، والواقع أنه لم يصب باندحار حقيقي في معاركه، بل أصيب بمواقف حرجة للغاية، كموقفه بعد ردة العرب، فمر في طريقه من عمان إلى المدينة المنورة بمسيلمة الكذاب في ديار بني حنيفة في طريق عودته إلى المدينة، فما انهارت معنوياته، ولا استكان، ولا هـان، بل استطاع التخلص من مسيلمة، الذي كان يقضي بالموت على المسلم، الذي لا يرتد عن دينه ويتبع مسيلمة، وبخاصة إذا كان من قريش ، وكان من قادة قريش، ومن ولاة النبي صلى الله عليه وسلم وقادته وسفرائه، ومن المسلمين البارزين.

ولم تتبدل نفسية عمرو، حين تأخر فتح الإسكندرية ، حتى سمع لوم عمر بن الخطاب ، وتقريعه على التأخير، بل بقي يفكر، ويدبر، ويستشير، ويخطط، حتى تم له فتح الإسكندية بالصبر، والمعاناة، والعمل الدائب، وثبات المعنويات.

ولعل تبدل النفس البشرية، تكون في حالة النصر أشد خطرا من حالة الاندحار، إذ تصاب النفس بالغرور، والكبرياء، والاستعلاء، والظلم، والعدوان، وقد انتصر عمرو كثيرا، فما عرفنا أن نفسيته تبدلت في حالة النصر، فوقع في شباك الأنفس الأمارة بالسوء، بل بقيت نفسيته كما كانت، تلتزم بالحق وتأمر به، وتبتعد عن الظلم، وتنهى عنه، ولا تتقاذفها الهواجس والانفعالات. [ ص: 40 ]

11 - وكان يتمتع بمزية سبق النظر، يحسب لكل شيء حسابه بدقة وإتقان، ولا يترك أمرا مهما يكن طفيفا تحت رحمة الصدف، ( وحين فزع أهل المدينة المنورة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، لبس عمرو سلاحه، وقصد المسجد، على حين تفرق المسلمون، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: ألا كان مفزعكم إلى الله ورسوله ؟! ألا فعلتم كما فعل هـذان الرجلان المؤمنان ) [1] ، والرجلان كانا: عمرو بن العاص ، وسالم مولى أبي حذيفة [2] .

كما أن بعد نظره، يجعله يحول بين رجاله، وبين مطاردة قضاعة بعد هـزيمتها في سرية ذات السلاسل ، خوفا من وجود مدد لها، فيقع رجاله في كمين، يكبدهم خسائر فادحة، أو يجعلهم يقاتلون عدوا متفوقا عليهم دون مسوغ [3] .

وكل المعارك التي خاضها في حرب الردة، وفي فتوح الشام، ومصر ، وليبيا ، فيها شواهد كثيرة على تمتعه بمزية بعد النظر، كما أن أعماله غير العسكرية في الإدارة والسياسة، وحتى في علاقاته الشخصية، كان بعيد النظر، يقظا أشد اليقظة، حذرا أشد الحذر، وكان في قيادته لا ينام، ولا ينيم، تحسبا لأسوأ الاحتمالات، فلا يؤخذ على حين غرة أبدا. [ ص: 41 ]

12 - وكان من أولئك القادة، الذي يعرفون حق المعرفة نفسيات رجاله، وقابلياتهم، لأنه يعايشهم في حلهم وترحالهم، وأمنهم وخوفهم، وسلمهم وحربهم، أكثر مما يعايش أهله الأقربين، ويعيش بينهم أكثر مما يعيش بين أهله وعشيرته.

وهذه المعرفة الوثيقة، جعلته يكلف كل فرد من أفراد قواته بالواجب الذي يناسب نفسيته، ويقارب كفايته، ويجعله يقبل على واجبه إقبال محب له، لا كاره، وقادر عليه لا عاجز عنه، مما جعل رجاله ينهضون بواجباتهم بشوق، ولهفة، وحماسة، وينجحون في أدائها نجاحا كبيرا.

وبالنسبة للنفسيات والقابليات، كان يلقي على عواتق قسم منهم، واجبات القتال الفردي، وعلى قسم منهم واجبات القيادات، التي تعمل بسيطرته المباشرة، وعلى قسم منهم واجبات القيادة التي تعمل بسيطرته غير المباشرة، كالقيادة المستقلة في فتح أنحاء مصر بعد استسلام حصن بابليون في المعركة الحاسمة، كما كان يكلف قسما منهم بواجب السفراء بينه وبين العدو، وواجب المفاوضين، وغيرها من الواجبات الأخرى، التي جاء ذكرها في معاركه الكثيرة شرقا وغربا.

والسبب الوحيد لنجاح رجاله في أداء الواجبات، التي ألقاها عمرو على عواتقهم; هـو معرفته التامة بنفسيات وقابليات رجاله، فكان يضع الرجل المناسب في الواجب المناسب. [ ص: 42 ]

ويبدو أنه كان في تعيينه القادة المرءوسين بخاصة، واختيار الإداريين ورجال الشرطة، والقضاة، لا يتأثر إلا بالكفايات العالية المتميزة، والإيمان الصادق العميق.. واستعراض أسماء قادته المرءوسين، وأصحاب المناصب الأخرى، الذين اختارهم عمرو ، خير دليل على ذلك.

13 - وكان يثق برجاله ثقة تامة، ويثقون به ثقة لا حدود لها. والدليل على ثقته برجاله هـو أنه كان يقودهم مدة طويلة في فتوح بلاد الشام، وعندما سمح له بفتح مصر، اختار رجاله من الذين عملوا بقيادته ردحا طويلا، وخبر كفاياتهم، ومزاياهم، ونفسياتهم، ولولا ثقته الكاملة بهم، لما أقدم على محاولة فتح مصر ، وعددهم يومئذ كان ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل، لأن تعداد رجاله بالنسبة لواجبهم في الفتح قليل جدا، ولكنه أقدم على محاولة فتح مصر، وبقيادته هـؤلاء الرجال القليلون عددا، لأنه كان يثق بهم ثقة تامة.

وقد أثبتت قوات عمرو بأنها حرية بثقته الكاملة، فقد أنجزت له واجبات الفتوح بصورة تدعو إلى التقدير والإعجاب، كما أنها صبرت على حصار حصن بابليون سبعة أشهر، حتى استطاعت فتحه [4] ، وصبرت ثلاثة أشهر على حصار الإسكندرية، حتى استطاعت فتحها [5] ، ومن المعلوم أن الجيش الذي يصبر على الحصار طويلا يعد [ ص: 43 ] من الجيوش ذات التدريب العالي، والضبط المتين، والمعنويات الرفيعة، ومثل هـذا الجيش يستحق كل الثقة من قائده في كل زمان ومكان، وفي مختلف الظروف والأحوال.

أما ثقة رجال عمرو بعمرو ، فلأنه قائد منتصر، يقود رجاله من نصر إلى نصر، ولأنه يضرب أروع الأمثال لرجاله في التضحية والفداء، فكان يقود رجاله من الأمام، يقول لهم: اتبعوني، ولا يقودهم من الخلف، فيأمرهم بالتقدم، ويقبع هـو في موقع أمين بعيد عن الأخطار [6] .

14 - وكان يستأثر بالخطر، ويؤثر رجاله بالأمن، فيدخل حصون أعدائه، ويحاور قادة الأعداء، ويعرض نفسه لأفدح الأخطـار [7] ، ولا يستأثر بالخير دونهم، ولا يترفع عنهم، ويعاملهم معاملة الآباء للأبناء.

وكانت أخلاقه الشخصية رضية جدا، وهو القائل: " ما أفحشت قط إلا في ثلاث مرات: مرتين في الجاهلية، وهذه الثالثة، وما منهن مرة إلا وقد ندمت واستحييت، وما استحييت من واحدة منهن أشد مما استحييت مما قلت لك، والله! إني لأرجو ألا أعود إلى الرابعة ما حييت " ، وكان قد قال لرجل من رجاله في ساحة القتال كلمة نابية [8] ، فقال له: (استغفر لي ما كنت قلت لك) ، فاستغفر له الرجل [9] . [ ص: 44 ]

وقد وصفه رجل من تقاة المسلمين فقال: (صحبت عمرو بن العاص، فما رأيت رجلا أبين قرآنا، ولا أكرم خلقا، ولا أشبه سريرة بعلانية منه) [10] .

وكما كان موضع ثقة رجاله، كان موضع ثقة رؤسائه، فقد كان أحد سفراء النبي صلى الله عليه وسلم ، وأحد قادته، وأحد ولاته، وأحد عماله على الصدقات، ولا أعرف صحابيا غير عمرو تولى للنبي صلى الله عليه وسلم كل هـذه المناصب السياسية، والعسكرية، والإدارية، والمالية، في حياته المباركة، مما يدل على ثقة النبي صلى الله عليه وسلم بعمرو سياسيا، وعسكريا، وإداريا، وماليا، كما كلفه بالقضاء في قضية من القضايا، وكان من أصحاب الفتيا في الصحابة، والمجتهدين بالدين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، مما يدل على ثقته بعلم عمرو وكفايته القضائية.

وكان موضع ثقة أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، فقد كان أحد قادته، وكان موضع ثقة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه ، إذ كان أحد قادته وولاته، وكان موضع ثقة عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، لأنه كان أحد قادته وولاته، وقد عزله عن مصر ، لأنه يستطيع أن يسيطر على خلفه، ولا يستطيع السيطرة عليه، وكان بعد عزله عن مصر موضع استشارة، فيما يعرض من معضلات جسام، مما يدل على أنه كان موضع ثقته، حتى بعد عزله عن مصر، وتوتر العلاقات الشخصية بين الرجلين. [ ص: 45 ]

وقد فرقت السياسة، بين الإمام علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، بعد توليه الخلافة، وبين عمرو بن العاص ، الذي كان يطمح باستعادة ولايته على مصر، والسياسة لا تتدخل في شيء إلا أفسدته، وإلا فلا يمكن أن يكون الإمام علي يجهل مكان ومكانة عمرو، وأهميته القصوى للدولة الإسلامية الفتية، قائدا، وإداريا، وسياسيا، ومفكرا، كما أن عمرا لا يمكن أن ينكر مكان علي، ومكانته وأهميته القصوى للدولة الإسلامية الفتية خليفة من الخلفاء الراشدين المهديين.

أما الثقة، بين معاوية بن أبي سفيان ، وعمرو، فمعروفة، وهي أشهر من أن تكون بحاجة إلى إيضاح أو تفصيل.

ومن الطبيعي أن يثق بالقائد المنتصر، الذي يقود رجاله من الأمام، ويضرب لهم أروع الأمثال، في الشجاعة والإقدام، والتضحية، والفداء، والذي يتحلى بالخلق الكريم، والكفاية العالية، رجاله الذين يعملون بقيادته، ورؤساؤه الذين يعمل بإمرتهم، ويكون موضع ثقة أمته عامة، وأن يبادلهم ثقة بثقة.. والثقة المتبادلة هـي التي تشيع الانسجام، والضبط، والتعاون، بين الرئيس والمرءوس، والقائد والمقود، من أجل تحقيق النصر المؤزر.

ولا يمكن أن ينتصر قائد لا يثق به رجاله، ولا قائد لا يثق برجاله، فالثقة المتبادلة من العوامل الحاسمة، لإحراز النصر بين القادة من جهة، والرجال من جهة أخرى. [ ص: 46 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية