الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      [ ص: 199 ] قال ابن النجار : دانت للناصر السلاطين ، ودخل تحت طاعته المخالفون ، وذلت له العتاة ، وانقهرت بسيفه البغاة ، واندحض أضداده ، وفتح البلاد العديدة ، وملك ما لم يملكه غيره ، وخطب له بالأندلس وبالصين ، وكان أسد بني العباس تتصدع لهيبته الجبال ، وتذل لسطوته الأقيال ، وكان حسن الخلق ، أطيف الخلق ، كامل الظرف ، فصيحا بليغا ، له التوقيعات المسددة والكلمات المؤيدة ، كانت أيامه غرة في وجه الدهر ، ودرة في تاج الفخر .

                                                                                      حدثني الحاجب علي بن محمد بن جعفر قال : برز منه توقيع إلى صدر المخزن جلال الدين بن يونس : " لا ينبغي لأرباب هذا المقام أن يقدموا على أمر لم ينظروا في عاقبته ، فإن النظر قبل الإقدام خير من الندم بعد الفوات ، ولا يؤخذ البرآء بقول الأعداء ، فلكل ناصح كاشح ، ولا يطالب بالأموال من لم يخن في الأعمال ، فإن المصادرة مكافأة للظالمين ، وليكن العفاف والتقى رقيبين عليك " . وبرز منه توقيع : " قد تكرر تقدمنا إليك مما افترضه الله علينا ويلزمنا القيام به ، كيف يهمل حال الناس حتى تم عليهم ما قد بين في باطنها ، فتنصف الرجل وتقابل العامل إن لم يفلج بحجة شرعية " .

                                                                                      قال القاضي ابن واصل : كان الناصر شهما شجاعا ذا فكرة صائبة وعقل رصين ومكر ودهاء ، وكانت هيبته عظيمة جدا ، وله أصحاب أخبار بالعراق وسائر الأطراف يطالعونه بجزئيات الأمور ; حتى ذكر أن رجلا ببغداد [ ص: 200 ] عمل دعوة وغسل يده قبل أضيافه فطالعه صاحب الخبر ، فكتب في جواب ذلك : " سوء أدب من صاحب الدار وفضول من كاتب المطالعة " .

                                                                                      قال : وكان رديء السيرة في الرعية ، مائلا إلى الظلم والعسف ، فخربت في أيامه العراق وتفرق أهلها وأخذ أملاكهم ، وكان يفعل أفعالا متضادة ، ويتشيع بخلاف آبائه .

                                                                                      قال : وبلغني أن رجلا كان يرى صحة خلافة يزيد ، فأحضره ليعاقبه ، فسأله : ما تقول في خلافة يزيد ؟ قال : أنا أقول لا ينعزل بارتكاب الفسق ، فأعرض عنه ، وأمر بإطلاقه ، وخاف من المحاققة .

                                                                                      قال : وسئل ابن الجوزي والخليفة يسمع : " من أفضل الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : " أفضلهم بعده من كانت بنته تحته " . وهذا جواب جيد يصدق على أبي بكر وعلى علي . قيل كتب إلى الناصر خادم اسمه يمن يتعتب ، فوقع فيها " بمن يمن يمن ، ثمن يمن ثمن " .

                                                                                      [ ص: 201 ] قال سبط الجوزي : قل بصر الناصر في الآخر ، وقيل : ذهب جملة ، وكان خادمه رشيق قد استولى على الخلافة ، وبقي يوقع عنه ، وكان بالخليفة أمراض منها عسر البول والحصى ، فشق ذكره مرارا ومآل أمره منه كان الموت . قال : وغسله خالي محيي الدين .

                                                                                      قال الموفق عبد اللطيف : أما مرض موته فسهو ونسيان ; بقي به ستة أشهر ولم يشعر أحد من الرعية بكنه حاله حتى خفي على الوزير وأهل الدار ، وكان له جارية قد علمها الخط بنفسه ، فكانت تكتب مثل خطه ، فكانت تكتب على التواقيع بمشورة القهرمانة ، وفي أثناء ذلك نزل جلال الدين محمد بن تكش خوارزم شاه على ضواحي بغداد هاربا منفضا من الرجال والمال والدواب ، فأفسد بما وصلت يده إليه ، فكانوا يدارونه ولا يمضون فيه أمرا لغيبة رأي الناصر ، ثم نهب دقوقا ، وراح إلى أذربيجان .

                                                                                      نقل العدل شمس الدين الجزري في " تاريخه " عن أبيه قال : سمعت المؤيد بن العلقمي الوزير لما كان على الأستاذ دارية يقول : إن الماء الذي يشربه الإمام الناصر كان تجيء به الدواب من فوق بغداد بسبعة فراسخ ويغلى سبع غلوات ثم يحبس في الأوعية أسبوعا ثم يشرب منه ، وما مات حتى سقي المرقد ثلاث مرار ، وشق ذكره وأخرج منه الحصى . وقال ابن الأثير : بقي الناصر ثلاث سنين عاطلا عن الحركة [ ص: 202 ] بالكلية ، وقد ذهبت إحدى عينيه ، وفي الآخر أصابه دوسنطاريا عشرين يوما ومات ، وما أطلق في مرضه شيئا مما كان أحدثه من الرسوم .

                                                                                      قال : وكان سيئ السيرة ، خرب العراق في أيامه ، وتفرق أهله في البلاد ، وأخذ أموالهم وأملاكهم . إلى أن قال : وجعل همه في رمي البندق والطيور المناسيب وسراويلات الفتوة .

                                                                                      ونقل الظهير الكازروني فيما أجاز لنا أن الناصر في وسط خلافته هم بترك الخلافة وبالانقطاع إلى التعبد ، وكتب عنه ابن الضحاك توقيعا قرئ على الأعيان ، وبنى رباطا للفقراء ، واتخذ إلى جانب الرباط دارا لنفسه كان يتردد إليها ويحادث الصوفية ، وعمل له ثيابا كبيرة بزي القوم . قلت : ثم نبذ هذا ومل .

                                                                                      ومن الحوادث في دولته قدوم أسرى الفرنج إلى بغداد وقد هزمهم صلاح الدين نوبة مرج العيون ومن التحف ضلع حوت طوله عشرة أذرع في عرض ذراع ، وجواهر مثمنة . وقيل : بل كان ذلك في آخر دولة المستضيء .

                                                                                      [ ص: 203 ] وأهلك وزير العراق ظهير الدين بن العطار فعرفت الغوغاء بجنازته فرجموه ، فهرب الحمالون فأخرج من تابوته ، وسحب ، فتعرى من الأكفان ، وطافوا به ، نسأل الله الستر ، وكان جبارا عنيدا .

                                                                                      أنبأني عز الدين بن البزوري في " تاريخه " قال : حكى التيمي ،

                                                                                      قال : كنت بحضرة ابن العطار ، وقد ورد عليه شيخ فوعظه بكلام لطيف ونهاه ، فقال : أخرجوه الكلب سحبا ، وكرر ذلك ، وقيل : هو الذي دس الباطنية على الوزير عضد الدين ابن رئيس الرؤساء حتى قتلوه . وبقي الناصر يركب ويتصيد .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية