الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
477 [ ص: 320 ] حديث سادس وثلاثون ليحيى بن سعيد

مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم ، وصيامكم مع صيامهم ، وأعمالكم مع أعمالهم ، يقرءون القرآن ولا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، تنظر في النصل فلا ترى شيئا ، وتنظر في القدح فلا ترى شيئا ، وتنظر في الريش فلا ترى شيئا ، وتتمارى في الفوق .

التالي السابق


هذا حديث صحيح الإسناد ثابت ، وقد روي معناه من وجوه كثيرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يختلف عن مالك فيما علمت في إسناد هذا الحديث .

ورواه القعنبي عن الدراوردي ، عن يحيى بن سعيد أن محمد بن إبراهيم أخبره ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، وعطاء بن يسار : أنهما سألا أبا سعيد الخدري عن الحرورية ، فقالا : هل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرها ؟ فقال : لا أدري ما الحرورية ؟ ولكني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : يخرج في هذه الأمة - ولم يقل منها - قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز حلوقهم أو [ ص: 321 ] قال : حناجرهم ، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ، فينظر الرامي إلى سهمه ، ثم إلى نصله ، ثم إلى رصافه ، فيتمارى في الفوقة هل علق بها من الدم شيء . ذكره يعقوب بن شيبة قال : حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب قال : حدثنا عبد العزيز الدراوردي ، عن يحيى بن سعيد ، فذكره بإسناده إلى آخره كما ذكرناه .

فأما قوله : يخرج فيكم - فمن هذه اللفظة - سميت الخوارج خوارج ، ومعنى قوله : يخرج فيكم - يريد : فيكم أنفسكم - يعني أصحابه ، أي : يخرج عليكم ، وكذلك خرجت الخوارج ، ومرقت المارقة في زمن الصحابة - رضي الله عنهم - ، وأول من سماهم حرورية علي - رضي الله عنه - إذ خرجوا مخالفين للمسلمين ناصبين لراية الخلاف والخروج ، وأما تسمية الناس لهم بالمارقة وبالخوارج ، فمن أصل ذلك هذا الحديث ، وهي أسماء مشهورة لهم في الأشعار والأخبار .

قال عبد الله بن قيس الرقيات :


ألا طرقت من آل بثنة طارقه على أنها معشوقة الدل عاشقه تبيت وأرض السوس بيني وبينها
وسولاب رستاق حمته الأزارقه إذا نحن شئنا فارقتنا عصابة
حرورية أضحت من الدين مارقه

( والأزارقة من الخوارج أصحاب نافع بن الأزرق ، وأتباعه ) .

[ ص: 322 ] والمعنى في هذا الحديث ومثله مما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك عند جماعة أهل العلم المراد به - عندهم - القوم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب يوم النهروان ، فهم أصل الخوارج ، وأول خارجة خرجت ; إلا أن منهم طائفة كانت ممن قصد المدينة يوم الدار في قتل عثمان - رحمه الله - .

قال أبو عمر :

كان للخوارج مع خروجهم تأويلات في القرآن ، ومذاهب سوء مفارقة لسلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، الذين أخذوا الكتاب والسنة عنهم ، وتفقهوا معهم ، فخالفوا في تأويلهم ومذاهبهم الصحابة والتابعين ، وكفروهم ، وأوجبوا على الحائض الصلاة ، ودفعوا رجم المحصن الزاني ، ومنهم من دفع الظهر ، والعصر ، وكفروا المسلمين بالمعاصي ، واستحلوا بالذنوب دماءهم ، وكان خروجهم فيما زعموا تغييرا للمنكر ورد الباطل ، فكان ما جاءوا به أعظم المنكر وأشد الباطل ، إلى قبيح مذاهبهم مما قد وقفنا على أكثرها ، وليس هذا والحمد لله موضع ذكرها ، فهذا أصل أمر الخوارج ، وأول خروجهم كان على علي - رضي الله عنه - فقتلهم بالنهروان ، ثم بقيت منهم بقايا من أنسابهم ومن غير أنسابهم على مذاهبهم يتناسلون ويعتقدون مذاهبهم ، وهم بحمد الله مع الجماعة مستترون بسوء مذهبهم ، [ ص: 323 ] غير مظهرين لذلك ، ولا ظاهرين به ، والحمد لله ، وكان للقوم صلاة بالليل والنهار ، وصيام يحتقر الناس أعمالهم عندها ، وكانوا يتلون القرآن آناء الليل والنهار ، ولم يكن يتجاوز حناجرهم ولا تراقيهم ; لأنهم كانوا يتأولونه بغير علم بالسنة المبينة ، فكانوا قد حرموا فهمه والأجر على تلاوته ، فهذا - والله أعلم - معنى قوله : لا يجاوز حناجرهم يقول : لا ينتفعون بقراءته كما لا ينتفع الآكل والشارب من المأكول والمشروب بما لا يجاوز حنجرته .

وقد قيل : إن معنى ذلك أنهم كانوا يتلونه بألسنتهم ولا تعتقده قلوبهم ، وهذا إنما هو في المنافقين .

وروى ابن وهب ، عن سفيان بن عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال : ذكرت الخوارج واجتهادهم عند ابن عباس ، وأنا عنده ، فسمعته يقول : ليسوا بأشد اجتهادا من اليهود والنصارى ، وهم يضلون .

وحدثناه خلف بن قاسم ، قال : حدثنا عبد الله ، يعني ابن إسحاق الجوهري ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج ، قال : حدثنا خالي أبو الربيع ، قال : حدثنا ابن وهب ، فذكره .

[ ص: 324 ] قال أحمد : وحدثنا أحمد بن صالح ، وعبد الرحمن بن يعقوب ، وسعيد بن ديسم ، قالوا : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، فذكره .

وكانوا بتكفيرهم الناس لا يقبلون خبر أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلم يعرفوا لذلك شيئا من سنته وأحكامه المبينة لمجمل كتاب الله ، والمخبرة عن مراد الله من خطابه في تنزيله بما أراد الله من عباده في شرائعه التي تعبدهم بها ، وكتاب الله عربي ، وألفاظه محتملة للمعاني ، فلا سبيل إلى مراد الله منها إلا ببيان رسوله ; ألا ترى إلى قول الله - عز وجل - ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) وألا ترى أن الصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصيام ، وسائر الأحكام ، إنما جاء ذكرها وفرضها في القرآن مجملا ، ثم بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أحكامها ، فمن لم يقبل أخبار العدول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ضل ، وصار في عمياء ، فلما لم يقبل القوم أخبار الأمة عن نبيها ، ولم يكن عندهم بنبيهم عدل ولا مومن ، وكفروا عليا وأصحابه فمن دونهم ، ضلوا وأضلوا ، ومرقوا من الدين ، وخالفوا سبيل المؤمنين - عافانا الله وعصمنا من الضلال كله برحمته وفضله ، فإنه قادر على ذلك لا شريك له .

ذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن نافع قال : قيل لابن عمر : إن نجدة يقول : إنك كافر ، وأراد قتل مولاك إذ لم يقل إنك [ ص: 325 ] كافر ، فقال عبد الله : كذب ، والله ما كفرت منذ أسلمت .

قال نافع : وكان ابن عمر حين خرج نجدة يرى قتاله .

قال عبد الرزاق : وأخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : أنه كان يحرض الناس على قتال زريق الحروري .

فأما قوله : يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، فالحناجر جمع حنجرة ، وهي آخر الحلق مما يلي الفم ، ومنه قول الله - عز وجل - وبلغت القلوب الحناجر ( ، وقيل : الحنجرة أعلى الصدر عند طرف الحلقوم .

وأما قوله : يمرقون من الدين ، فالمروق الخروج السريع كما يمرق السهم من الرمية ، والرمية : الطريد من الصيد المرمية ، ( وأتت بهاء التأنيث ; لأنه ذهب مذهب الأسماء التي لم تجئ على مذهب النعت ، وإن كان ، فعيل نعتا للمؤنث ، وهو في تأويل مفعول - كان بغير هاء - نحو لحية خصيب ، وكف دهين ، وشاة رمي ; لأنها في تأويل مخضوبة ، ومدهونة ، ومرمية ، وقد تجيء فعيل بالهاء ، وهي في تأويل مفعولة تخرج مخرج الأسماء ، ولا يذهب بها مذهب النعوت نحو النطيحة ، والذبيحة ، والفريسة ، وأكيلة السبع ) . وهي فعيلة من الرمي ; لأن كل فاعل يبنى على فعله ، فالاسم منه فاعل ، والمفعول منه مفعول كقولك ضرب فهو ضارب ، والمفعول مضروب ، والأنثى مضروبة ، فإذا بنيت الفعل من بنات الياء قلت : رمى فهو رام [ ص: 326 ] والمفعول مرمي ، وكان أصله مرموي حتى يكون على وزن مفعول ، فاستثقلت العرب ياء قبلها ضمة ، فقلبت الواو ياء ، ثم أدغمتها في الياء التي بعدها فصار " مرمي " ، فإذا أنثته قلت : مرمية ، وإذا أدخلت عليها الألف واللام قلت : المرمية والرمية مثل المقتولة والقتيلة .

قال الشاعر :


والنفس موقوفة والموت غايتها نصب الرمية للأحداث ترميها

قال أبو عبيد في قوله : كما يخرج السهم من الرمية قال : يقول : يخرج السهم ، ولم يتمسك بشيء كما خرج هؤلاء من الإسلام ، ولم يتمسكوا بشيء .

وقال غيره : تتمارى في الفوق أي تشك ، والتماري الشك ، وذلك يوجب أن لا يقطع على الخوارج ولا على غيرهم من أهل البدع بالخروج من الإسلام ، وأن يشك في أمرهم ، وكل شيء يشك فيه ، فسبيله التوقف عنه دون القطع عليه .

وقال الأخفش : شبهه برمية الرامي الشديد الساعد إذا رمى ، فأنفذ سهمه في جنب الرمية ، فخرج السهم من الجانب الآخر من شدة رميه ، وسرعة خروج سهمه ، فلم يتعلق بالسهم دم ولا فرث ، فكأن الرامي أخذ ذلك السهم ، فنظر في النصل ، وهو الحديدة التي في السهم ، فلم [ ص: 327 ] ير شيئا يريد من فرث ولا دم ، ثم نظر في القدح ، والقدح عود السهم نفسه ، فلم ير شيئا ، ونظر في الريش ، فلم ير شيئا .

وقوله تتمارى في الفوق ، الفوق : هو الشق الذي يدخل في الوتر ، أي : تشك إن كان أصاب الدم الفوق ، فكما خرج السهم خاليا نقيا من الفرث والدم لم يتعلق منها شيء ، فكذلك خرج هؤلاء من الدين يعني الخوارج .

وفي غير حديث مالك ذكر الرعظ ، وهو مدخل السهم في الزج والرصاف ، وهو العقب الذي يشد عليه ، والقذذ ، وهو الريش واحدتها قذة .

أخبرنا خلف ، حدثنا عبد الله بن عمر ، حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج ، حدثنا أحمد بن صالح ، قال : النصل : الحديدة ، والرصاف : العقب ، والقذذ : الريش ، والنضي : السهم كله إلى الريش .

قال أبو عمر :

قد قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يخرج قوم من أمتي إن صحت هذه اللفظة ، فقد جعلهم من أمته ، وقد قال قوم : معناه من أمتي بدعواهم .

[ ص: 328 ] ذكر عن ابن عيينة ، عن ابن جدعان ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان دعواهما واحدة ، فبينما هم كذلك ; إذ مرقت مارقة كأنما يمرق السهم من الرمية ، تقتلها أولى الطائفتين بالحق .

حدثنا أحمد بن محمد حدثنا أحمد بن الفضل حدثنا أبو علي الحسن بن علي الرافقي بأنطاكية سنة ثلاث وعشرين قال : حدثنا أحمد بن محمد بن أبي الحناجر قال : حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال : حدثنا مبارك بن فضالة ، عن علي بن زيد ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تلتقي من أمتي فئتان عظيمتان ، دعواهما واحدة ، فبينا هم كذلك ; إذ مرقت بينهما مارقة ، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق .

حدثنا أحمد بن قاسم حدثنا محمد بن معاوية حدثنا أبو يعلى محمد بن زهير الأيلي القاضي بالأيلة حدثنا يعقوب بن إسحاق بن زياد القلوسي حدثنا بشير بن عباد الساعدي حدثنا القاسم بن الفضل حدثنا أبو نضرة ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تمرق مارقة عند فرقة من الناس ، تقتلها أولى الطائفتين بالحق .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان - قراءة مني عليه - أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال [ ص: 329 ] حدثنا عبد الواحد قال : حدثنا مجالد قال : حدثنا أبو الوداك قال : سمعت أبا سعيد الخدري يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يخرج قوم من أمتي بعد فرقة من الناس أو عند اختلاف من الناس ، قوم يقرءون القرآن كأحسن ما يقرأه الناس ، ويرعونه كأحسن ما يرعاه الناس ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، يرمي الرجل الصيد فينفذ الفرث والدم ، فيأخذ السهم فيتمارى أصابه شيء أم لا ، هم شرار الخلق والخليقة ، يقتلهم أولى الطائفتين بالله أو أقرب الطائفتين إلى الله .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا علي بن مسهر ، عن الشيباني يعني أبا إسحاق ، عن بشير بن عمرو قال سألت سهل بن حنيف هل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر هؤلاء الخوارج قال : سمعته ، وأشار بيده نحو المشرق يقول : يخرج منه قوم يقرءون القرآن بألسنتهم لا يعدو تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية .

وروى ابن وهب ، عن يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي سعيد الخدري قال : بينا نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم قسما ، أتاه ذو الخويصرة ، وهو رجل من بني تميم ، فقال : يا رسول الله اعدل ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 330 ] ويلك ، ومن يعدل إذا لم أعدل ؟ لقد خبت وخسرت إذا لم أعدل . فقال عمر : يا رسول الله ائذن لي فيه فأضرب عنقه ، فقال : دعه ، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء ، وهو القدح ، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء ، سبق الفرث والدم ، آيتهم رجل أسود ، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر ; يخرجون على حين فرقة من الناس .

قال أبو سعيد : فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم ، وأنا معه ، فأمر بذلك الرجل ، فالتمس فوجد ، فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي نعت .

وحدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر ( بن أبي شيبة ) قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن سعيد بن عبد العزيز قال : حدثنا إسحاق بن راشد ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن عبد الرحمن ، والضحاك بن قيس ، عن أبي سعيد [ ص: 331 ] الخدري قال : بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم مغنما يوم حنين ، أتاه رجل من بني تميم يقال له ذو الخويصرة ، فقال : يا رسول الله اعدل ، قال : لقد خبت وخسرت إن لم أعدل ، فقال عمر : يا رسول الله دعني أقتله ، قال : لا إن لهذا أصحابا يخرجون عند اختلاف من الناس ، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم أو حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، آيتهم رجل منهم كأن يده ثدي المرأة أو كأنها بضعة تدردر .

فقال أبو سعيد : سمعت أذني من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين ، وبصرت عيني مع علي بن أبي طالب حين قتلهم ، فنظرت إليه .

وذكر الضحاك في هذا الحديث طائفة عن يونس ، وعن الأوزاعي ، عن الزهري ، وطائفة تقول فيه : الضحاك المشرقي ، وطائفة تقول : الضحاك بن مزاحم ، ولم يذكره معمر .

وروى ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن بكير بن عبد الله بن الأشج ، عن بسر بن سعيد ، عن عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن الحرورية لما خرجت ، وهو مع علي بن أبي طالب ، فقالوا : لا حكم إلا لله ، فقال علي : كلمة حق أريد بها باطل ، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وصف أناسا ، إني لأعرف صفتهم في هؤلاء يقولون الحق بألسنتهم لا يجاوز هذا منهم ، وأشار إلى حلقه ، من أبغض خلق الله إليه ، منهم أسود إحدى يديه كطبي شاة ، وحلمة ثدي . فلما قتلهم [ ص: 332 ] علي بن أبي طالب قال انظروا انظروا ، فلم يجدوا شيئا ، فقال : ارجعوا ، فوالله ما كذبت - ولا كذبت مرتين أو ثلاثا ; ثم وجدوه في خربة ، فأتوا به حتى وضعوه بين يديه ، فقال عبيد الله : أنا حاضر ذلك من أمرهم ، وقول علي فيهم ; قال بكير بن الأشج : وحدثني رجل ، عن إبراهيم بن حنين أنه قال : رأيت ذلك الأسود .

قال أبو عمر : قوله : يخرج ، وقوله : إن لهذا أصحابا يخرجون عند اختلاف من الناس يدل على أنهم لم يكونوا خرجوا بعد ، وأنهم يخرجون فيهم ، وقد استدل بنحو هذا الاستدلال من زعم أن ذا الخويصرة ليس ذا الثدية ، - والله أعلم - .

ويحتمل قوله : إن لهذا أصحابا يريد على مذهبه ، وإن لم يكونوا ممن صحبه ، كما يقال لأتباع الشافعي ، وأتباع مالك ، وأتباع أبي حنيفة ، وغيرهم من الفقهاء ، فيمن تبعهم على مذاهبهم - : هؤلاء أصحاب فلان ، وهذا من أصحاب فلان - والله أعلم - .

ويقال : إن ذا الخويصرة اسمه حرقوص ، وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال : حرقوص بن زهير هو ذو الثدية ، وهو الذي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما عدلت .

وذكر المدائني ، عن نعيم بن حكيم ، عن أبي مريم - قصة ذي الثدية بتمامها وطولها ، وقال : يقال له نافع ذو الثدية .

[ ص: 333 ] وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد الخدري قال : بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم قسما ; إذ جاء ابن أبي الخويصرة ، فقال : اعدل يا محمد قال : ويلك إذا لم أعدل فمن يعدل ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن له أصحابا يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فيهم رجل إحدى يديه أو على يديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر ، يخرجون على حين فترة من الناس قال : فنزلت فيهم ( ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ) .

قال أبو سعيد : أشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأشهد أن عليا قتلهم ، وأنا حين قتلهم معه - حتى أتى الرجل على النعت الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، وسعيد بن نصر قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا محمد بن كثير قال : حدثنا سفيان ، وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا أحمد بن زهير حدثنا علي بن الجعد حدثنا زهير جميعا ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، عن سويد بن غفلة ، عن علي بن أبي طالب قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : يكون قوم في آخر الزمان سفهاء [ ص: 334 ] الأحلام ، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فأينما لقيتهم فاقتلهم ، فإن قتلهم أجر لمن قتلهم .

وروى يحيى بن آدم ، عن إسرائيل ، عن محمد بن معن ، عن الحارث بن مالك قال : شهدت مع علي النهروان ، فلما فرغ منهم قال : اطلبوه اطلبوه ، فطلبوه ، فلم يقدروا على شيء ، فأخذه الكرب ، فرأيت جبينه يتحدر منه العرق ، ثم وجده فخر ساجدا ، وقال : والله ما كذبت ، ولا كذبت .

وروينا ، عن خليفة الطائي قال : لما رجعنا من النهروان ، لقينا العزار الطائي قبل أن ينتهي إلى المدائن ، فقال لعدي بن حاتم : يا أبا طريف : أغانم سالم ؟ أم ظالم آثم ؟ قال : بل غانم سالم إن شاء الله قال : فالحكم والأمر إذا إليك ؟ فقال الأسود بن يزيد ، والأسود بن قيس المراديان : ما أخرج هذا الكلام منك إلا شر ، وإنا لنعرفك برأي القوم ، فأتيا به عليا ، فقالا : إن هذا يرى رأي الخوارج ، وقد قال كذا ، وكذا قال : فما أصنع به ؟ قال : تقتله قال : لا أقتل من لا يخرج علي قال : فتحبسه قال : ولا أحبس من ليست له جناية ، خليا سبيل الرجل .

حدثنا خلف بن قاسم حدثنا عبد الله يعني ابن إسحاق حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير قال : حدثني ابن لهيعة قال : حدثني بكير بن عبد الله بن الأشج أنه [ ص: 335 ] سأل نافعا : كيف كان رأي ابن عمر في الخوارج ؟ فقال : كان يقول : هم شرار الخلق ، انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار ، فجعلوها على المؤمنين .

وحدثنا خلف بن قاسم حدثنا عبد الله بن إسحاق حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج قال : حدثني خالي أبو الربيع ، وأحمد بن عمرو ، وأحمد بن صالح ، قالوا : حدثنا ابن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث أن بكير بن الأشج حدثه أنه سأل نافعا : كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية ؟ قال : يراهم شرار خلق الله ، قال : إنهم انطلقوا إلى آيات في الكفار ، فجعلوها على المومنين .

وروى حكيم بن جابر ، وطارق بن شهاب ، والحسن ، وغيرهم ، عن علي بمعنى واحد أنه سئل عن أهل النهروان : أكفار هم ؟ قال : من الكفر فروا . قيل : فمنافقون هم ؟ قال : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا . قيل : فما هم ؟ قال : قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا وبغوا علينا وحاربونا وقاتلونا فقتلناهم .

وروي عنه أن هذا القول كان منه في أصحاب الجمل ، - والله أعلم - .

وأخبار الخوارج بالنهروان ، وقتلهم للرجال والولدان ، وتكفيرهم الناس ، واستحلالهم الدماء والأموال مشهور معروف ، ولأبي زيد عمر بن شبة في أخبار النهروان وأخبار صفين ديوان كبير من تأمله اشتفى من تلك الأخبار ، ولغيره في ذلك كتب حسان ، والله المستعان .

[ ص: 336 ] وروى إسرائيل ، عن مسلم بن عبيد ، عن أبي الطفيل ، عن علي في قول الله - عز وجل - ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ) الآية ، قال : هم أهل النهر .

وروى الثوري ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب : أن عتريس بن عرقوب أتى عبد الله بن مسعود ، فقال : يا أبا عبد الرحمن هلك من لم يأمر بالمعروف ، ولم ينه عن المنكر ، فقال عبد الله بن مسعود : هلك من لم ينكر المنكر بقلبه ، ولم يعرف المعروف بقلبه .

أخبرنا أحمد بن محمد حدثنا محمد بن عيسى حدثنا بكر بن سهل حدثنا نعيم بن حماد حدثنا وكيع ، عن مسعر ، عن عامر بن شقيق ، عن أبي وائل ، عن علي قال : لم نقاتل أهل النهر على الشرك .

حدثنا نعيم حدثنا وكيع ، عن ابن أبي خالد ، عن حكيم بن جابر ، عن علي مثله .

حدثنا نعيم حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير حدثنا هشام بن يحيى الغساني ، عن أبيه أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه في الخوارج : إن كان من رأي القوم أن يسيحوا في الأرض من غير فساد على الأئمة ، ولا على أحد من أهل الذمة ، ولا يتناولون أحدا ، ولا قطع سبيل من سبل المسلمين ، فليذهبوا حيث شاءوا ، وإن كان رأيهم القتال ، فوالله لو أن أبكاري من ولدي خرجوا رغبة عن جماعة المسلمين لأرقت دماءهم ; ألتمس بذلك وجه الله ، والدار الآخرة .

[ ص: 337 ] وذكر ابن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب قال : صاحبت الفتنة الأولى ، فأدركت رجالا ذوي عدد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن شهد بدرا ، فبلغنا أنهم كانوا يرون أن يهدر أمر الفتنة ، فلا يقام فيها على رجل قصاص في قتل ولا دم ، ولا يرون على امرأة سيبت ، فأصيبت حدا ، ولا يرون بينها وبين زوجها ملاعنة . ومن رماها جلد الحد ، وترد إلى زوجها بعد أن تعتد من الآخر .

قال ابن شهاب : وقالوا : لا يضمن مال ذهب إلا أن يوجد شيء بعينه ، فيرد إلى أهله .

وقال ابن القاسم : بلغني أن مالكا قال : الدماء موضوعة عنهم ، وأما الأموال ، فإن وجد شيء بعينه أخذ ، وإلا لم يتبعوا بشيء ، قال ذلك في الخوارج .

قال ابن القاسم : وفرق بين المحاربين وبين الخوارج ; لأن الخوارج خرجوا ، واستهلكوا ذلك على تأويل أنه صواب ، والمحاربون خرجوا فسقا ( مجونا ) وخلاعة على غير تأويل ، فيوضع عن المحارب إذا تاب قبل أن يقدر عليه حد الحرابة ، ولا توضع عنه حقوق الناس - يعني في دم ولا مال .

قال أبو عمر : قال إسماعيل بن إسحاق : رأى مالك قتل الخوارج وأهل القدر من أجل الفساد الداخل في الدين ، وهو من باب الفساد في الأرض ، وليس [ ص: 338 ] إفسادهم بدون فساد قطاع الطريق والمحاربين للمسلمين على أموالهم ، فوجب بذلك قتلهم ، إلا أنه يرى استتابتهم لعلهم يراجعون الحق ، فإن تمادوا قتلوا على إفسادهم لا على كفر .

قال أبو عمر : هذا قول عامة الفقهاء الذين يرون قتلهم واستتابتهم ، ومنهم من يقول : لا يتعرض لهم باستتابة ولا غيرها ما استتروا ، ولم يبغوا ويحاربوا ، وهذا مذهب الشافعي ، وأبي حنيفة ، وأصحابهما وجمهور أهل الفقه ، وكثير من أهل الحديث .

قال الشافعي - رحمه الله - في كتاب قتال أهل البغي : لو أن قوما أظهروا رأي الخوارج ، وتجنبوا جماعة المسلمين وكفروهم ، لم تحل بذلك دماؤهم ، ولا قتالهم ; لأنهم على حرمة الإيمان حتى يصيروا إلى الحال التي يجوز فيها قتالهم من خروجهم إلى قتال المسلمين ، وإشهارهم السلاح ، وامتناعهم من نفوذ الحق عليهم ، وقال : بلغنا أن علي بن أبي طالب بينما هو يخطب ; إذ سمع تحكيما من ناحية المسجد ، فقال : ما هذا ؟ فقيل : رجل يقول : لا حكم إلا لله ، فقال علي - رحمه الله - : كلمة حق أريد بها باطل ، لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ، ولا نمنعكم الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا ، ولا نبدؤكم بقتال .

قال : وكتب عدي إلى عمر بن عبد العزيز أن الخوارج عندنا يسبونك ، فكتب إليه عمر : إن سبوني فسبوهم أو اعفوا عنهم ، وإن [ ص: 339 ] شهروا السلاح ، فأشهروا عليهم ، وإن ضربوا فاضربوا .

قال الشافعي : وبهذا كله نقول ، فإن قاتلونا على ما وصفنا قاتلناهم ، فإن انهزموا لم نتبعهم ، ولم نجهز على جريحهم .

قال أبو عمر : قول مالك في ذلك ومذهبه عند أصحابه في أن لا يتبع مدبر من الفئة الباغية ، ولا يجهز على جريح - كمذهب الشافعي سواء ، وكذلك الحكم في قتال أهل القبلة عند جمهور الفقهاء ، وقال أبو حنيفة : إن انهزم الخارجي أو الباغي إلى فئة أتبع ، وإن انهزم إلى غير فئة لم يتبع .

قال أبو عمر : أجمع العلماء على أن من شق العصا ، وفارق الجماعة ، وشهر على المسلمين السلاح ، وأخاف السبيل ، وأفسد بالقتل والسلب ، فقتلهم وإراقة دمائهم واجب ; لأن هذا من الفساد العظيم في الأرض ، والفساد في الأرض موجب لإراقة الدماء بإجماع إلا أن يتوب فاعل ذلك من قبل أن يقدر عليه ، والانهزام عندهم ضرب من التوبة ، وكذلك من عجز عن القتال لم يقتل إلا بما وجب عليه قبل ذلك .

ومن أهل الحديث طائفة تراهم كفارا على ظواهر الأحاديث فيهم مثل قوله : من حمل علينا السلاح فليس منا ، ومثل قوله : يمرقون من الدين وهي آثار يعارضها غيرها فيمن لا يشرك بالله شيئا ، ويريد بعمله [ ص: 340 ] وجهه ، وإن أخطأ في حكمه واجتهاده ، والنظر يشهد أن الكفر لا يكون إلا بضد الحال التي يكون بها الإيمان ; لأنهما ضدان ، وللكلام في هذه المسألة موضع غير هذا ، وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية