الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  صفحة جزء
                                                                  ( 135 ) حدثنا أبو يزيد يوسف بن يزيد القراطيسي ، ثنا حجاج بن إبراهيم الأزرق ، ح وحدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، ومحمد بن عبد الله الحضرمي ، قالا : ثنا أبو الربيع الزهراني ، قالا : ثنا فليح بن سليمان ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة بن وقاص ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كلهم حدثني طائفة من حديثها ، وبعضهم أوعى من بعض وأثبت اقتصاصا ، وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني ، وبعض حديثهم يصدق بعضا ، زعموا أن عائشة - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - - قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين أزواجه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ، قالت : فأقرع بيننا في غزاة غزاها فخرج سهمي ، فخرجت [ ص: 62 ] معه بعدما أنزل الحجاب ، فأنا أحمل في هودج وأنزل فيه ، حتى إذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة ، آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل ، فالتمست صدري فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع فرجعت فالتمست عقدي ، فحبسني ابتغاؤه ، فأقبل الذين يرحلون بي ، فحملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركبه وهم يحسبون أني فيه ، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلن ولم يغشهن اللحم وإنما يأكلن العلقة من الطعام فاحتملوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا ، فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش ، فجئت منزلهم وليس فيه أحد ، فأممت منزلي الذي كنت فيه ، فظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي ، فكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش ، فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني ، وكان يراني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين أناخ راحلته ، فوطئ يدها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا معرسين في نحر الظهيرة ، فهلك من هلك ، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي بن سلول ، فقدمت المدينة فاشتكيت بها شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك ، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أراه منه حين أمرض ، إنما يدخل فيسلم ثم يقول : " كيف تيكم ؟ " ، فذلك يريبني فلا أشعر حتى نقهت ، فخرجت أنا وأم مسطح إلى قبل المناصع متبرزنا لا نخرج إلا من ليل إلى ليل ، وذلك قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا [ ص: 63 ] أمر العرب الأول في البرية أو في التبرز ، فأقبلت أنا وأم مسطح بنت أبي رهم نمشي ، فعثرت في مرطها ، فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا ؟ ، فقالت : يا هنتاه ألم تسمعي ما قالوا ؟ ، قلت : وما قالوا ؟ ، فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مرضا إلى مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي ودخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " كيف تيكم ؟ " ، فقلت : ائذن لي أن آتي أبوي ، قالت : وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ، قالت : فأذن لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأتيت أبوي فقلت لأمي : ما يتحدث به الناس ؟ قالت : يا بنية هوني على نفسك الشأن ، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ، ولها ضرائر إلا أكثرن عليها ، فقلت : سبحان الله وقد تحدث الناس بهذا ؟ ، قالت : فبت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله ، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذي يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم في نفسه من الود لهم ، فقال أسامة : أهلك يا رسول الله ولا نعلم إلا خيرا ، وأما علي فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وسل الجارية تصدقك ، قالت : فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة ، فقال لها : " هل رأيت منها شيئا يريبك ؟ " ، فقالت بريرة : لا ، والذي بعثك بالحق ما رأيت منها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن ، تنام عن العجين حتى تأتي الداجن فتأكله ، قالت : فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول ، قالت : فقال رسول [ ص: 64 ] الله - صلى الله عليه وسلم - : " من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي فوالله - قالها ثلاثا - ما علمت على أهلي إلا خيرا ، وقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي " ، قالت : فقام سعد بن معاذ ، فقال : أنا والله يا رسول الله أعذرك منه ، إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك ، فقام سعد بن عبادة ، وكان سيد الخزرج ، وكان قبل ذلك رجلا صالحا ، ولكنه احتملته الحمية ، فقال : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك ، فقال أسيد بن حضير : كذبت لعمر الله ليقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين ، فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر ، فنزل يخفضهم حتى سكتوا وسكت ، وبكيت يومي لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، وأصبح عندي أبواي وقد بكيت يومي وليلتي حتى أظن أن البكاء فالق عيني ، قالت : فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي ، إذ استأذنت امرأة من الأنصار فأذنت لها ، فجلست تبكي معي فبينا نحن كذلك إذ دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس ، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها ، وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني ، فتشهد ثم قال : " أما بعد يا عائشة بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه " فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت لأبي : أجب عني رسول الله فيما قال ، قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت لأمي : فقالت مثل ذلك ، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من [ ص: 65 ] القرآن : والله لقد علمت أنكم قد سمعتم ما تحدث به وقر في أنفسكم فصدقتم به ، ولئن قلت إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقونني بذلك ، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقنني ، والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف إذ قال : صبر جميل الآية ، قالت : ثم تحولت على فراشي وأنا أرجو أن يبرئني الله ببراءتي ، ولكن والله ما ظننت أن ينزل في شأني وحي يتلى ، ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلم بالقرآن في أمري ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رؤيا تبرئني ، قالت : فوالله ما رام من مجلسه ولا خرج أحد من البيت حتى أنزل عليه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في يوم شات ، قالت : فسري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يضحك ، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال : " يا عائشة احمدي الله فقد برأك الله " ، فقالت لي أمي : قومي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله ، وأنزل الله : إن الذين جاءوا بالإفك الآيات كلها ، فلما أنزل الله هذا في براءتي ، قال أبو بكر الصديق : - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه : والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعدما قال لعائشة - ، فأنزل الله هذه الآية : ولا يأتل أولو الفضل إلى آخر الآية ، قال أبو بكر : بلى إني أحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه ، قالت : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل زينب بنت جحش عن أمري فقال : " يا زينب ما علمت وما رأيت ؟ " ، فقالت : أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت عليها إلا خيرا ، قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني ، فعصمها الله بالورع .

                                                                  [ ص: 66 ] ( 136 ) حدثنا أبو يزيد القراطيسي ، ثنا حجاج بن إبراهيم الأزرق ، ح وحدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، ومحمد بن عبد الله الحضرمي ، قالا : ثنا أبو الربيع الزهراني ، قالا : ثنا فليح بن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، وعبد الله بن الزبير ، مثله .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية