الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وأما التقدير الثاني - وهو أن يكون قوله : " قائما " حالا مما بعد إلا - فالمعنى : أنه لا إله إلا هو قائما بالعدل ، فهو وحده المستحق الإلهية ، مع كونه قائما بالقسط ، قال شيخنا : وهذا التقدير أرجح ، فإنه يتضمن : أن الملائكة وأولي العلم يشهدون له بأنه لا إله إلا هو ، وأنه قائم بالقسط .

قلت : مراده أنه إذا كان قوله قائما بالقسط حالا من المشهود به ، فهو كالصفة له ، فإن الحال صفة في المعنى لصاحبها ، فإذا وقعت الشهادة على ذي الحال وصاحبها كان كلاهما مشهودا به ، فيكون الملائكة وأولو العلم قد شهدوا بأنه قائم بالقسط ، كما شهدوا بأنه لا إله إلا هو ، والتقدير الأول لا يتضمن ذلك ، فإنه إذا كان التقدير : شهد الله - قائما بالقسط - أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم يشهدون أنه لا إله إلا هو : كان القيام بالقسط حالا من اسم الله وحده .

وأيضا فكونه قائما بالقسط فيما شهد به أبلغ من كونه حالا من مجرد الشهادة .

فإن قيل : فإذا كان حالا من " هو " فهلا اقترن به ؟ ولم فصل بين صاحب الحال وبينها بالمعطوف ، فجاء متوسطا بين صاحب الحال وبينها ؟

قلت : فائدته ظاهرة ، فإنه لو قال : شهد الله أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط والملائكة وأولو العلم; لأوهم عطف الملائكة وأولي العلم على الضمير في قوله قائما بالقسط [ ص: 427 ] ولا يحسن العطف لأجل الفصل ، وليس المعنى على ذلك قطعا ، وإنما المعنى على خلافه ، وهو أن قيامه بالقسط مختص به ، كما أنه مختص بالإلهية ، فهو وحده الإله المعبود المستحق العبادة ، وهو وحده المجازي المثيب المعاقب بالعدل .

قوله : " لا إله إلا هو " ، ذكر محمد بن جعفر أنه قال : الأولى وصف وتوحيد ، والثانية : رسم وتعليم ، أي قولوا : لا إله إلا هو ، ومعنى هذا : أن الأولى تضمنت أن الله سبحانه شهد بها وأخبر بها ، والتالي للقرآن إنما يخبر عن شهادته هو ، وليس في ذلك شهادة من التالي نفسه ، فأعاد سبحانه ذكرها مجردة ليقولها التالي ، فيكون شاهدا هو أيضا .

وأيضا فالأولى : خبر عن الشهادة بالتوحيد ، والثانية : خبر عن نفس التوحيد ، وختم بقوله : العزيز الحكيم فتضمنت الآية توحيده وعدله ، وعزته وحكمته ، فالتوحيد : يتضمن ثبوت صفات كماله ، ونعوت جلاله ، وعدم المماثل له فيها وعبادته وحده لا شريك له ، والعدل يتضمن وضعه الأشياء موضعها ، وتنزيلها منازلها ، وأنه لم يخص شيئا منها إلا بمخصص اقتضى ذلك ، وأنه لا يعاقب من لا يستحق العقوبة ، ولا يمنع من يستحق العطاء ، وإن كان هو الذي جعله مستحقا ، والعزة تتضمن كمال قدرته وقوته وقهره ، والحكمة تتضمن كمال علمه ، وخبرته ، وأنه أمر ونهى ، وخلق وقدر ، لما له في ذلك من الحكم والغايات الحميدة التي يستحق عليها كمال الحمد .

فاسمه العزيز يتضمن الملك ، واسمه الحكيم يتضمن الحمد ، وأول الآية يتضمن التوحيد ، وذلك حقيقة لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، وذلك أفضل ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والنبيون من قبله ، والحكيم الذي إذا أمر بأمر كان حسنا في نفسه وإذا نهى عن شيء كان قبيحا في نفسه ، وإذا أخبر بخبر كان صدقا ، وإذا فعل فعلا كان صوابا ، وإذا أراد شيئا كان أولى بالإرادة من غيره ، وهذا الوصف على الكمال لا يكون إلا لله وحده .

فتضمنت هذه الآية وهذه الشهادة : الدلالة على وحدانيته المنافية للشرك ، وعدله المنافي للظلم ، وعزته المنافية للعجز ، وحكمته المنافية للجهل والعيب ، ففيها الشهادة له بالتوحيد ، والعدل ، والقدرة والعلم والحكمة ، ولهذا كانت أعظم شهادة .

[ ص: 428 ] ولا يقوم لهذه الشهادة على وجهها من جميع الطوائف إلا أهل السنة ، وسائر طوائف أهل البدع لا يقومون بها ، فالفلاسفة أشد الناس إنكارا وجحودا لمضمونها ، من أولها إلى آخرها ، وطوائف الاتحادية : هم أبعد خلق الله عنها من كل وجه ، وطائفة الجهمية تنكر حقيقتها من وجوه :

منها : أن الإله هو الذي تألهه القلوب ، محبة له ، واشتياقا إليه ، وإنابة ، وعندهم : أن الله لا يحب ولا يحب .

ومنها : أن الشهادة كلامه وخبره عما شهد به ، وهو عندهم لا يقول ولا يتكلم ، ولا يشهد ولا يخبر .

ومنها : أنها تتضمن مباينته لخلقه بذاته وصفاته ، وعند فرعونيهم : أنه لا يباين الخلق ولا يحايثهم ، وليس فوق العرش إله يعبد ، ولا رب يصلى له ويسجد .

وعند حلوليتهم : أنه حال في كل مكان بذاته ، حتى في الأمكنة التي يستحيى من ذكرها ، فهؤلاء مثبتة الجهمية ، وأولئك نفاتهم .

ومنها : أن قيامه بالقسط في أفعاله وأقواله ، وعندهم : أنه لم يقم ولا يقوم به فعل ولا قول البتة ، وأن قوله : مخلوق من بعض المخلوقات ، وفعله هو المفعول المنفصل ، وأما أن يكون له فعل يكون به فاعلا حقيقة : فلا .

ومنها : أن القسط عندهم لا حقيقة له ، بل كل ممكن فهو قسط ، وليس في مقدوره ما يكون ظلما وقسطا ، بل الظلم عندهم هو المحال الممتنع لذاته ، والقسط هو الممكن ، فنزه الله سبحانه نفسه - على قولهم - عن المحال الممتنع لذاته الذي لا يدخل تحت القدرة .

ومنها : أن العزة هي القوة والقدرة ، وعندهم لا يقوم به صفة ، ولا له صفة وقدرة تسمى قدرة وقوة .

ومنها : أن الحكمة هي الغاية التي يفعل لأجلها ، وتكون هي المطلوبة بالفعل ، ويكون وجودها أولى من عدمها ، وهذا عندهم ممتنع في حقه سبحانه ، فلا يفعل لحكمة ولا غاية ، بل لا غاية لفعله ولا أمره ، وما ثم إلا محض المشيئة المجردة عن الحكمة والتعليل .

ومنها : أن الإله هو الذي له الأسماء الحسنى ، والصفات العلى ، وهو الذي يفعل بقدرته ومشيئته وحكمته ، وهو الموصوف بالصفات والأفعال ، المسمى بالأسماء [ ص: 429 ] التي قامت بها حقائقها ومعانيها ، وهذا لا يثبته على الحقيقة إلا أتباع الرسل ، وهم أهل العدل والتوحيد .

التالي السابق


الخدمات العلمية