الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال المحيضون : لا نزاع أن الحامل قد ترى الدم على عادتها ، لا سيما في أول حملها ، وإنما النزاع في حكم هذا الدم لا في وجوده . وقد كان حيضا قبل الحمل بالاتفاق ، فنحن نستصحب حكمه حتى يأتي ما يرفعه بيقين .

قالوا : والحكم إذا ثبت في محل ، فالأصل بقاؤه حتى يأتي ما يرفعه ، فالأول استصحاب لحكم الإجماع في محل النزاع ، والثاني استصحاب للحكم الثابت في المحل حتى يتحقق ما يرفعه ، والفرق بينهما ظاهر .

قالوا : وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف ) . وهذا أسود يعرف فكان حيضا .

قالوا : وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أليست إحداكن إذا حاضت لم تصم ولم تصل ؟ ) . وحيض المرأة خروج دمها في أوقات معلومة من الشهر لغة وشرعا ، [ ص: 652 ] وهذا كذلك لغة ، والأصل في الأسماء تقريرها لا تغييرها .

قالوا : ولأن الدم الخارج من الفرج الذي رتب الشارع عليه الأحكام قسمان : حيض واستحاضة ، ولم يجعل لهما ثالثا ، وهذا ليس باستحاضة ، فإن الاستحاضة الدم المطبق ، والزائد على أكثر الحيض ، أو الخارج عن العادة ، وهذا ليس واحدا منها ، فبطل أن يكون استحاضة ، فهو حيض ، قالوا : ولا يمكنكم إثبات قسم ثالث في هذا المحل ، وجعله دم فساد ، فإن هذا لا يثبت إلا بنص أو إجماع أو دليل يجب المصير إليه ، وهو منتف .

قالوا : وقد رد النبي - صلى الله عليه وسلم - المستحاضة إلى عادتها ، وقال : ( اجلسي قدر الأيام التي كنت تحيضين ) .

فدل على أن عادة النساء معتبرة في وصف الدم وحكمه ، فإذا جرى دم الحامل على عادتها المعتادة ، ووقتها من غير زيادة ولا نقصان ولا انتقال ، دلت عادتها على أنه حيض ، ووجب تحكيم عادتها ، وتقديمها على الفساد الخارج عن العبادة .

قالوا : وأعلم الأمة بهذه المسألة نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأعلمهن عائشة ، وقد صح عنها من رواية أهل المدينة ، أنها لا تصلي ، وقد شهد له الإمام أحمد بأنه أصح من الرواية الأخرى عنها ، ولذلك رجع إليه إسحاق ، وأخبر أنه قول أحمد بن حنبل ، قالوا : ولا تعرف صحة الآثار بخلاف ذلك عمن ذكرتم من الصحابة ، ولو صحت فهي مسألة نزاع بين الصحابة ، ولا دليل يفصل .

قالوا : ولأن عدم مجامعة الحيض للحمل ، إما أن يعلم بالحس أو بالشرع ، وكلاهما منتف ، أما الأول : فظاهر ، وأما الثاني : فليس عن صاحب الشرع ما يدل على أنهما لا يجتمعان .

وأما قولكم : إنه جعله دليلا على براءة الرحم من الحمل في العدة والاستبراء .

قلنا : جعل دليلا ظاهرا أو قطعيا الأول : صحيح . والثاني : باطل ، فإنه لو كان دليلا قطعيا لما تخلف عنه مدلوله ، ولكانت أول مدة الحمل من حين [ ص: 653 ] انقطاع الحيض ، وهذا لم يقله أحد ، بل أول المدة من حين الوطء ، ولو حاضت بعده عدة حيض ، فلو وطئها ، ثم جاءت بولد لأكثر من ستة أشهر من حين الوطء ، ولأقل منها من حين انقطاع الحيض ، لحقه النسب اتفاقا ، فعلم أنه أمارة ظاهرة ، قد يتخلف عنها مدلولها تخلف المطر عن الغيم الرطب ، وبهذا يخرج الجواب عما استدللتم به من السنة ، فإنا بها قائلون ، وإلى حكمها صائرون ، وهي الحكم بين المتنازعين .

والنبي - صلى الله عليه وسلم - قسم النساء إلى قسمين : حامل فعدتها وضع حملها ، وحائل فعدتها بالحيض ، ونحن قائلون بموجب هذا غير منازعين فيه ، ولكن أين فيه ما يدل على أن ما تراه الحامل من الدم على عادتها تصوم معه وتصلي ؟ هذا أمر آخر لا تعرض للحديث به ، وهذا يقول القائلون : بأن دمها دم حيض ، هذه العبارة بعينها ، ولا يعد هذا تناقضا ولا خللا في العبارة .

قالوا : وهكذا قوله في شأن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - : ( مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا قبل أن يمسها ) ، إنما فيه إباحة الطلاق إذا كانت حائلا بشرطين : الطهر وعدم المسيس ، فأين في هذا التعرض لحكم الدم الذي تراه على حملها ؟ وقولكم إن الحامل لو كانت تحيض لكان طلاقها في زمن الدم بدعة ، وقد اتفق الناس على أن طلاق الحامل ليس ببدعة وإن رأت الدم ؟ .

قلنا : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم أحوال المرأة التي يريد طلاقها إلى حال حمل ، وحال خلو عنه ، وجوز طلاق الحامل مطلقا من غير استثناء ، وأما غير ذات الحمل ، فإنما أباح طلاقها بالشرطين المذكورين ، وليس في هذا ما يدل على أن دم الحامل دم فساد ، بل على أن الحامل تخالف غيرها في الطلاق ، وأن غيرها إنما تطلق طاهرا غير مصابة ، ولا يشترط في الحامل شيء من هذا ، بل تطلق عقيب الإصابة ، وتطلق وإن رأت الدم ، فكما لا يحرم طلاقها عقيب إصابتها ، لا يحرم حال حيضها .

وهذا الذي تقتضيه حكمة الشارع في وقت الطلاق إذنا ومنعا ، فإن المرأة متى استبان حملها كان المطلق على بصيرة من أمره ، ولم يعرض له من الندم ما يعرض لهن كلهن بعد الجماع ، ولا يشعر بحملها ، فليس ما منع منه نظير [ ص: 654 ] ما أذن فيه ، لا شرعا ، ولا واقعا ، ولا اعتبارا ، ولا سيما من علل المنع من الطلاق في الحيض بتطويل العدة ، فهذا لا أثر له في الحامل .

قالوا : وأما قولكم : إنه لو كان حيضا ؛ لانقضت به العدة ، فهذا لا يلزم ، لأن الله - سبحانه - جعل عدة الحامل بوضع الحمل ، وعدة الحائل بالأقراء ، ولا يمكن انقضاء عدة الحامل بالأقراء لإفضاء ذلك إلى أن يملكها الثاني ويتزوجها وهي حامل من غيره ، فيسقي ماءه زرع غيره .

قالوا : وإذا كنتم سلمتم لنا أن الحائض قد تحبل ، وحملتم على ذلك حديث عائشة - رضي الله عنها - ولا يمكنكم منع ذلك لشهادة الحس به ، فقد أعطيتم أن الحيض والحبل يجتمعان ، فبطل استدلالكم من رأسه ، لأن مداره على أن الحيض لا يجامع الحبل .

فإن قلتم : نحن إنما جوزنا ورود الحمل على الحيض ، وكلامنا في عكسه ، وهو ورود الحيض على الحمل وبينهما فرق .

قيل : إذا كانا متنافيين لا يجتمعان ، فأي فرق بين ورود هذا على هذا وعكسه ؟ .

وأما قولكم : إن الله - سبحانه - أجرى العادة بانقلاب دم الطمث لبنا يتغذى به الولد ، ولهذا لا تحيض المراضع . قلنا : وهذا من أكبر حجتنا عليكم ؛ فإن هذا الانقلاب والتغذية باللبن إنما يستحكم بعد الوضع ، وهو زمن سلطان اللبن ، وارتضاع المولود ، وقد أجرى الله العادة بأن المرضع لا تحيض . ومع هذا ، فلو رأت دما في وقت عادتها ، لحكم له بحكم الحيض بالاتفاق ، فلأن يحكم له بحكم الحيض في الحال التي لم يستحكم فيها انقلابه ، ولا تغذى الطفل به أولى وأحرى .

قالوا : وهب أن هذا كما تقولون فهذا إنما يكون عند احتياج الطفل إلى التغذية باللبن ، وهذا بعد أن ينفخ فيه الروح . فأما قبل ذلك ، فإنه لا ينقلب لبنا لعدم حاجة الحمل إليه .

[ ص: 655 ] وأيضا ، فإنه لا يستحيل كله لبنا ، بل يستحيل بعضه ، ويخرج الباقي ، وهذا القول هو الراجح كما تراه نقلا ودليلا ، والله المستعان .

التالي السابق


الخدمات العلمية