الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          فصل الضرب الثاني : عقد على منفعة في الذمة مضبوطة بصفات كالسلم ، كخياطة ثوب ، وبناء دار ، وحمل إلى موضع معين ، ولا يكون الأجير فيها إلا آدميا جائز التصرف ، ويسمى الأجير المشترك ، ولا يجوز الجمع بين تقدير المدة والعمل كقوله : استأجرتك لتخيط لي هذا الثوب في يوم لم يصح ، ويحتمل أن يصح ، ولا تصح الإجارة على عمل يختص فاعله أن يكون من أهل القربة كالحج والأذان ونحوهما ، وعنه : تصح ، وإن استأجره ليحجمه صح ، ويكره للحر أكل أجرته ويطعمه الرقيق والبهائم ، وقال القاضي : لا تصح .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          فصل

                                                                                                                          ( الضرب الثاني : عقد على منفعة في الذمة مضبوطة بصفات كالسلم ، كخياطة ثوب ، وبناء دار ، وحمل إلى موضع معين ) نقول : يجوز للآدمي أن يؤجر نفسه بغير خلاف ; لأن موسى عليه السلام آجر نفسه لرعاية الغنم ، ولأنه ينتفع به مع بقاء عينه أشبه الأرض ، ثم إن كانت على مدة بعينها وعمل بعينه فواضح ، وإن كانت على عمل موصوف في الذمة فيكون كالسلم أي لا بد أن يكون مضبوطا بصفات السلم ليحصل العلم به ( ولا يكون الأجير فيها إلا آدميا ) لأنها متعلقة بالذمة ، ولا ذمة لغير الآدمي ( جائز التصرف ) لأنها معاوضة لعمل في الذمة فلم يجز من غير جائز التصرف ( ويسمى الأجير المشترك ) لأنه يتقبل أعمالا لجماعة ، فتكون منفعته مشتركة بينهم ، ويلزمه الشروع عقب العقد وإن ترك ما يلزمه - قال الشيخ تقي الدين بلا عذر - فتلف بسببه ضمنه وله الاستنابة ، فإن مرض أو هرب اكترى من يعمله عليه ، فإن شرط مباشرته بنفسه فلا عمل ولا استنابة إذا ، وفي " المغني " : إن اختلف القصد فيه [ ص: 90 ] كنسج لم يلزمه ولا المكتري قبوله ، وإن تعذر فله الفسخ ، وينفسخ العقد بتلف محل عمل معين .

                                                                                                                          ( ولا يجوز الجمع بين تقدير المدة والعمل كقوله : استأجرتك لتخيط لي هذا الثوب في يوم لم يصح ) في الأشهر ; لأن الجمع بينهما يزيد الإجارة غررا لا حاجة إليه ; لأنه قد يفرغ من العمل قبل انقضاء اليوم ، فإن استعمل في بقيته فقد زاد على ما وقع العقد عليه ، وإن لم يعمل كان تاركا للعمل في بعضه فهذا غرر أمكن التحرز منه ولم يوجد مثله في محل الوفاق فلم يجز العقد معه ( ويحتمل أن يصح ) هذا رواية ; لأن الإجارة معقودة على العمل ، والمدة إنما ذكرت للتعجيل فلا يفسد العقد ، وكجعالة ، وفيها وجه قال في " التبصرة " : وإن اشترط تعجيل العمل في أقصى ممكن فله شرطه وعليها إذا تم العمل قبل انقضاء المدة لم يلزمه العمل في بقيتها كقضاء الدين قبل أجله ، وإن مضت المدة قبل العمل فللمستأجر الفسخ ، فإن رضي بالبقاء عليه لم يكن للآخر الفسخ ، فإن اختار إمضاء العقد طالبه بالعمل فقط كالمسلم إذا صبر عند التعذر ، وإن فسخ قبل العمل سقط الأجر والعمل ، وإن كان بعد عمل بعضه فله أجر المثل ; لأن العقد انفسخ وسقط المسمى .

                                                                                                                          ( ولا تصح الإجارة على عمل يختص فاعله أن يكون من أهل القربة ) أي مسلما ( كالحج ) أي النيابة فيه ( والأذان ونحوهما ) كإمامة صلاة ، وتعليم قرآن في المشهور لما روى عبادة قال : علمت ناسا من أهل الصفة القرآن ، فأهدى لي رجل منهم قوسا ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال إن سرك [ ص: 91 ] أن يقلدك الله قوسا من نار فاقبلها ، وعن أبي بن كعب أنه علم رجلا سورة من القرآن فأهدى له خميصة أو ثوبا ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال ، إنك لو لبستها ألبسك الله مكانها ثوبا من نار ، رواهما الأثرم ، ولأن من شرط هذه الأفعال كونها قربة إلى الله تعالى فلم يجز أخذ الأجرة كما لو استأجر قوما يصلون خلفه ( وعنه : تصح ) لأنه عليه السلام زوج رجلا بما معه من القرآن متفق عليه ، فإذا جاز تعليم القرآن عوضا في النكاح وقام مقام المهر جاز أخذ الأجر عليه ، ولحديث أبي سعيد في الرقية ، ولأنه يجوز أخذ الرزق عليه من بيت المال فجاز أخذ الأجر عليه كبناء المساجد مع أن الحاجة داعية إلى الاستنابة في الحج وغيره ، وكمن أعطى بلا شرط ، نص عليه ، وكجعالة ، وفيها وجهان ، وفي " المنتخب " الجعل في حج كأجرة ، والأول أصح ; لأن تعليم القرآن وجعله صداقا فيه عنه اختلاف ، وليس في الخبر تصريح به ، فيحتمل أنه زوجه بغير صداق إكراما له كما زوج أبا طلحة أم سليم على إسلامه ، ولو سلم جوازه فالفرق بين المهر والأجر أن المهر ليس بعوض محض ; لأنه يجوز خلو العقد عن تسميته ، ويصح مع فساده بخلاف الأجر ، وأما الرقية فنص أحمد على جوازه ; لأنها مداواة ، والمأخوذ عليها جعل ، وفي حديث وفقه وجهان أشهرها المنع ، وكذا القضاء ، قالهابن حمدان ، وجوز ذلك الشيخ تقي الدين لحاجة ، ونقل حنبل : يكره للمؤذن أن يأخذ على أذانه أجرا ، وظاهره أن ما لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة فيجوز كتعليم الخط والحساب ، وفي " المبهج " لا مشاهرة ، وله أخذ رزق على ما يتعدى نفعه لا على ما لا يتعدى نفعه كصوم ، وصلاة خلفه ، ونحوه .

                                                                                                                          [ ص: 92 ] ( وإن استأجره ليحجمه صح ) في الأصح لما روى ابن عباس قال : احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجرة ، قال ابن عباس : ولو كان حراما لم يعطه ، متفق عليه ، ولأنها منفعة مباحة لا يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة فجاز الاستئجار عليه كالفصد ، والختان ، ونحوهما ( ويكره للحر أكل أجرته ) لقوله عليه السلام : كسب الحجام خبيث ، متفق عليه ، ولا يلزمه منه التحريم ، فإنه قد سمى البصل والثوم خبيثين مع إباحتهما ، وخص الحر بذلك تنزيها له ، وعنه : يحرم ، ومنع في " الشرح " أن يكون عن أحمد نصا بالتحريم ، وإنما قال : نحن نعطيه كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال القاضي في " الخلاف " : يحرم على السيد خاصة دون سائر الأحرار ، واستنبطه من كلام أحمد ( ويطعمه الرقيق والبهائم ) لقوله عليه السلام : أطعمه ناضحك ، ورقيقك ، رواه الترمذي وحسنه ، وفي " الرعاية " مثله ، وقيل : يكره ، وهو ظاهر ; لأن الخبر يدل على إباحته ، إذ غير جائز أن يطعم رقيقه ما يحرم أكله ، فإن الرقيق آدمي يمنع منه ما يمنع الحر ( وقال القاضي ) والحلواني ( لا تصح ) الإجارة ، نص عليه ، وقدمه في " الرعاية " لظاهر الخبر ، وكذا أخذه بلا شرط ، وجوزه في " الشرح " ، ويصرفه في علف دابته ، ومؤنة صناعته ، ويحل أكله ، وكذا جزم به الحلواني لغير حر .




                                                                                                                          الخدمات العلمية