الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمشتري زاد مسلم وتذهب عنها العاهة وقال يبدو صلاحه حمرته وصفرته وللبيهقي نهى عن بيع الثمار حتى تؤمن عليها العاهة قيل ومتى ذلك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال إذا طلعت الثريا وإسناده صحيح وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة والمزابنة بيع الثمر بالثمر كيلا وبيع الكرم بالزبيب كيلا وزاد مسلم وبيع الزرع بالحنطة كيلا وقال البخاري : وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام .

                                                            التالي السابق


                                                            (الحديث الثاني)

                                                            وعن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمشتري. .

                                                            (فيه) فوائد:

                                                            (الأولى) أخرجه الأئمة الستة فرواه الشيخان ، وأبو داود من هذا الوجه من طريق مالك ، وأخرجه مسلم وحده من حديث عبيد الله بن عمر وموسى بن عتبة والضحاك بن عثمان ، وأخرجه النسائي وابن ماجه من حديث الليث بن سعد ، وأخرجه مسلم ، وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أيوب السختياني بلفظ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى تزهو وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة نهى البائع والمشتري ، وأخرجه مسلم من رواية يحيى بن سعيد بلفظ لا تتبايعوا الثمرة حتى يبدو صلاحها وتذهب عنها الآفة نهى البائع والمشتري ، وأخرجه مسلم وقال يبدو [ ص: 125 ] صلاحه حمرته وصفرته كلهم عن نافع عن ابن عمر واتفق عليه الشيخان من طريق الزهري عن سالم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه الحديث. واتفقا عليه أيضا من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه فقيل لابن عمر ما صلاحه فقال تذهب عاهته ورواه البيهقي وقال فيه: قال ابن عمر وصلاحه أن يؤكل منه وروى البيهقي من رواية ابن أبي ذئب عن عثمان بن عبد الله بن سراقة عن ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يؤمن عليه العاهة قيل ومتى ذلك يا أبا عبد الرحمن قال إذا طلعت الثريا قال والدي - رحمه الله - إسناده صحيح.

                                                            (الثانية) قوله (حتى يبدو صلاحها) أي يظهر وهو بلا همز قال النووي في شرح مسلم ومما ينبغي أن ينبه عليه أنه يقع في كثير من كتب المحدثين وغيرهم حتى يبدوا بألف في الخط وهو خطأ والصواب حذفها في مثل هذا للناصب، وإنما اختلفوا في إثباتها إذا لم يكن ناصب مثل زيد يبدوا والاختيار حذفها أيضا.

                                                            (الثالثة) فيه النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها وهذا يشتمل ثلاثة أوجه.

                                                            (إحداها) بيعها بشرط القطع وهذا صحيح وقد حكى غير واحد الإجماع عليه منهم النووي فخص النهي بالإجماع لكن ذهب ابن حزم الظاهري إلى منع البيع في هذه الصورة أيضا قال وممن منع من بيع الثمرة مطلقا لا بشرط ولا بغيره سفيان الثوري وابن أبي ليلى . انتهى.

                                                            وهذا يقدح في دعوى الإجماع قال أصحابنا: فلو شرط القطع ثم لم يقطع فالبيع باق على صحته ويلزمه البائع بالقطع [ ص: 126 ] فإن تراضيا على إبقائه جاز. قالوا: وإنما يجوز البيع بشرط القطع إذا كان المقطوع منتفعا به فإن لم تكن فيه منفعة كالجوز والكمثرى لم يصح بيعه بشرط القطع.

                                                            (الحالة الثانية) بيعها بشرط التبقية وهذا باطل بالإجماع ؛ لأنه ربما تلفت الثمرة قبل إدراكها فيكون البائع قد أكل مال أخيه بالباطل كما جاءت به الأحاديث فإذا شرط القطع فقد انتفى هذا الضرر وعلله الحنفية بأنه شرط لا يقتضيه العقد وهو شغل ملك الغير وبأنه جمع بين صفقتين وهو إعارة أو إجارة في بيع.

                                                            (الحالة الثالثة) بيعها مطلقا من غير شرط قطع ولا تبقية ومقتضى الحديث في هذه الحالة البطلان وبه قال الشافعي وأحمد وجمهور العلماء من السلف والخلف وذهب أبو حنيفة إلى الصحة وعن مالك قولان كالمذهبين قال ابن شاس في الجواهر سببهما الخلاف في إطلاق العقد هل يقتضي التبقية فيبطل كما في اشتراطها أو القطع فيصح كاشتراطه والأول رأي البغداديين في حكايتهم عن المذهب وتابعهم عليه الشيخ أبو محمد ، وأبو إسحاق التونسي ومن وافقهما من المتأخرين. .

                                                            والثاني هو ظاهر الكتاب أي المدونة عند أبي القاسم بن محرز وأبي الحسن اللخمي ومن وافقهما من المتأخرين استقراء من قوله في كتاب البيوع الفاسدة فيمن اشترى ثمرة نخل قبل أن يبدو صلاحها فجذها قبل بدو الصلاح: البيع جائز إذا لم يكن في أصل بيع شرط أن يتركها حتى يبدو صلاحها ووجه هذا القول صرف الإطلاق إلى العرف الشرعي كما بعد الزهو ؛ ولأن التبقية انتفاع بملك آخر لم يشترط ولم يقع البيع عليه. انتهى.

                                                            وأجاب الحنفية عن هذا الحديث بجوابين:

                                                            (أحدهما) أن المراد به بيع الثمار قبل أن توجد وتخلق فهو كالحديث الوارد في النهي عن بيع السنين وهذا مخالف لتفسيره بدو الصلاح في الحديث بأنه صفرته وحمرته وبأنه صلاحه للأكل منه وبأنه ذهاب عاهته وبأن ذلك عند طلوع الثريا أي مقارنة للفجر وروي عن عطاء عن أبي هريرة مرفوعا إذا طلع النجم صباحا رفعت العاهة عن أهل البلد والنجم الثريا، والمراد كما قال بعضهم في الحجاز خاصة لشدة حره قال البيهقي في المعرفة بعد نقله هذا عن بعض من يسوي الأخبار على مذهبه قد عرفنا [ ص: 127 ] بذلك الأخبار نهيه عن بيع الثمار قبل أن يكون وعرفنا بهذه الأخبار نهيه عن بيعها مطلقا إذا كانت ما لم يبدو فيها الصلاح بما يوجد بعد أن تكون الثمار عدة فقال حتى تزهو وقال في رواية جابر حتى تشقح قيل وما تشقح ؟ قال تحمار أو تصفار ويؤكل منها وقال في رواية أخرى عن جابر حتى تطيب وفي ذلك دلالة على أن حكم الثمار بعد بدو الصلاح فيها في البيع خلاف حكمها قبل أن يبدو الصلاح فيها مطلقا ولا يجوز قبله إلا بشرط القطع. انتهى.

                                                            (الجواب الثاني) أن النهي هنا ليس للتحريم، وإنما هو على سبيل التنزيه والأدب والمشورة عليهم لكثرة ما كانوا يختصمون إليه فيه وهذا مردود، والأصل في النهي التحريم حتى يصرفه عن ذلك صارف ووافق بعض الحنفية الجمهور على بطلان البيع قبل بدو الصلاح من غير شرط اتباعا للحديث، وإليه ذهب قاضي خان . .

                                                            واعلم أن محل المنع عند أصحابنا ما إذا كانت الشجرة ثابتة فإن كانت مقطوعة صح بيع ثمرتها مطلقا ؛ لأن الثمرة لا تبقى عليها فقبضه كشرط القطع. .

                                                            (الرابعة) ذهب القفال من أصحابنا إلى جواز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها من غير شرط في صورة وهي ما إذا كانت الكروم في بلاد شديدة البرد بحيث لا تنتهي ثمارها إلى الحلاوة واعتاد أهلها قطعه حصرما ويكون المعتاد كالمشروط ومنع أكثر أصحابنا البيع في هذه الصورة كغيرها من الصور، ولم يكتفوا بهذه العادة بل لا بد من التصريح باشتراط القطع والله أعلم.

                                                            (الخامسة) ذهب بعض الفقهاء من أصحابنا والمالكية والحنابلة إلى جواز البيع مطلقا قبل بدو الصلاح في صورة أخرى وهي أن تكون الأشجار للمشتري بأن يبيع إنسان شجرة وتبقى الثمرة له ثم يبيعه الثمرة أو يوصي لإنسان بالثمرة فيبيعها لصاحب الشجرة، وهذا هو المشهور عند المالكية ، ووقع للنووي في الروضة في كتاب المساقاة تصحيحه لكن قال أكثر أصحابنا لا بد من شرط القطع في هذه الصورة أيضا ولكن لا يلزمه الوفاء بالشرط هنا بل له الإبقاء إذ لا معنى لتكليفه قطع ثماره عن أشجاره وقال بالبطلان في هذه الصورة عند عدم شرط القطع من المالكية ابن عبد الحكم وابن دينار . .

                                                            (السادسة) حمل الفقهاء من المذاهب الأربعة المنع من بيع الثمرة قبل بدو الصلاح على ما إذا [ ص: 128 ] باعها مفردة عن الأشجار فإن باعها مع الأشجار صح مطلقا من غير شرط القطع بل قال أصحابنا لا يجوز شرط القطع في هذه الصورة، وأنكر ذلك ابن حزم الظاهري وبشع في إنكاره وهو مردود والحق ما قاله الجمهور، وأي معنى للقطع والأشجار ليست باقية للبائع بل هي مبيعة للمشتري. .

                                                            (السابعة) مقتضى قوله حتى يبدو صلاحها جواز بيعها بعد بدو الصلاح مطلقا وبشرط القطع وبشرط التبقية ؛ لأن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها وقد جعل النهي ممتدا إلى غاية بدو الصلاح والمعنى فيه أن تؤمن فيها العاهة وتغلب السلامة فيوثق بحصولها للمشتري بخلاف ما قبل بدو الصلاح وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور وقال أبو حنيفة لا يصح بيعها في هذه الحالة بشرط التبقية فسوى بين ما قبل بدو الصلاح وما بعده وقد فرق في الحديث بين الحالتين وغاير بين حكمهما وحكى النووي في شرح مسلم عن أبي حنيفة أنه أوجب شرط القطع في هذه الصورة وليس كذلك فإنه لم يوجبه لا قبل بدو الصلاح ولا بعده كما تقدم بل صحح النووي البيع حالة الإطلاق فيهما، وأبطله حالة شرط التبقية فيهما كما تقدم وقال في حالة الإطلاق يجب على المشتري قطعها في الحال تفريغا لملك البائع فإن تركها بإذنه طاب له، وإن تركها بغير إذنه تصدق بما زاد لحصوله بجهة محظورة، وإن تركها بعد ما تناهى عظمها لم يتصدق بشيء ؛ لأن هذا لغير حالة لا تحقق زيادة .



                                                            (الثامنة) لا يختص هذا الحكم بالنخل بل سائر الأشجار كذلك في جواز بيع ثمرتها بعد بدو صلاحها مطلقا وبشرط القطع وبشرط التبقية وامتناعه قبل بدو الصلاح إلا بشرط القطع مع كونه منتفعا به على ما تقدم . .

                                                            (التاسعة) قال الفقهاء من أصحابنا وغيرهم لا يشترط بدو الصلاح في كل عنقود بل إذا باع ثمرة شجرة واحدة بدا الصلاح في بعضها كان كما لو بدا في كلها حتى يصح بيعها من غير شرط القطع. ولو باع ثمار أشجار بدا الصلاح في بعضها نظر إن اختلف الجنس لم يغير بدو الصلاح في جنس حكم جنس آخر ؛ فلو باع رطبا وعنبا بدا الصلاح في أحدهما فقط وجب شرط القطع في الآخر، وإن اتحد الجنس ففيه تفصيل أما الشافعية فإنهم سووا بينه وبين بيع نخل عليه ثمرة قد أبر بعضها دون بعض [ ص: 129 ] فقالوا ما لم يبد صلاحه تبع لما بدا صلاحه بشرط اتحاد الصفقة والبستان دون النوع على ما تقدم فيه من الخلاف عندهم وقال أحمد بن حنبل إذا غلب صلاح نوع في بستان جاز بيع جميعه وعنه رواية أخرى أنه لا يباع منه إلا ما بدا صلاحه واختلف أصحابه في بيع ما لم يبد صلاحه منه على انفراده على وجهين.

                                                            والمشهور عند المالكية أنه لا يشترط اتحاد النوع ولا البستان بل يباع بطيب الحوائط المجاورة له وعللوه بأن الكل في معنى الحائط الواحد فإنه لو هدم الجدار الفاصل صار الجميع حائطا واحدا لكن شرطه أن يكون طيبه متلاحقا فلو كان الذي طاب نوعا يبكر جدا لم يلحق به غيره وقيل يشترط اتحاد البستان. وقال القاضي أبو الحسن يلحق به حوائط البلد كلها قال ابن شاس في الجواهر وهذا القول يرجع إلى إقامة وقت بدو الصلاح مقام نفسه ولو كانت الأشجار مما تطعم بطنين في السنة ففي جواز بيع البطن الثاني ببدو صلاح الأول قولان المشهور منهما المنع هكذا ذكر المالكية المسألة .



                                                            (العاشرة) قال أصحابنا يحصل بدو الصلاح بظهور النضج ومبادئ الحلاوة وزوال العفوصة أو الحموضة المفرطتين وذلك فيما لا يتلون بأن يتموه ويلين وفيما يتلون بأن يحمر أو يصفر أو يسود قالوا وهذه الأوصاف فإن عرف بها بدو الصلاح فليس واحد منها شرطا فيه ؛ لأن القثاء لا يتصور فيه شيء منها بل يستطاب أكله صغيرا وكبيرا، وإنما بدو صلاحه أن يكبر بحيث يجنى في الغالب ويؤكل، وإنما يؤكل في الصغر على الندور وكذا الزرع لا يتصور فيه شيء منها باشتداد الحب وقال البغوي بيع أوراق التوت قبل تناهيها لا يجوز إلا بشرط القطع وبعده يجوز مطلقا وبشرط القطع، والعبارة الشاملة أن يقال بدو الصلاح في هذه الأشياء صيرورتها إلى الصفة التي تطلب غالبا لكونها على تلك الصفة. .

                                                            (الحادية عشرة) قوله نهى البائع والمشتري تأكيد لما فيه من بيان أن البيع، وإن كان فيه مصلحة الإنسان فليس له أن يرتكب المنهي عنه فيه ويقول أسقطت حقي من اعتبار المصلحة فإن المنع لمصلحة المشتري ؛ لأن الثمار قبل بدو الصلاح معرضة لطوارئ العاهات عليها فإذا طرأ عليها شيء منها حصل [ ص: 130 ] الإجحاف للمشتري في الثمن الذي بذله ومع فقد منعه الشرع ونهى المشتري كما نهى البائع وكأنه قطع بذلك النزاع والتخاصم والله أعلم .



                                                            (الثانية عشرة) استدل به البخاري في صحيحه على جواز بيع الثمرة بعد بدو صلاحها ولو كانت مما تجب فيه الزكاة، وقال فلم يحذر البيع بعد الصلاح على أحد ولم يخص من وجبت عليه الزكاة ممن لم تجب عليه.

                                                            (قلت) وللشافعي في بيع الثمر الزكوي قبل إخراج الزكاة ثلاثة أقوال (البطلان) في الجميع. و (الصحة) في الجميع. و (الأظهر) البطلان في قدر الزكاة والصحة في الباقي فمن أبطل البيع إما في الجميع، وإما في قدر الزكاة فلمعنى آخر وهو تعلق حق الأصناف بها كما يبطل البيع في الثمار بعد بدو الصلاح بها إذا كانت مزهوة كسائر المزهوات والمنع في الحديث لمعنى وهو تعرضها للآفات وذلك يزول غالبا ببدو الصلاح فإذا كان فيها بعد بدو الصلاح مانع آخر من الصحة لم يصح الاستدلال بهذا الحديث على الصحة لما فيه من ذلك المانع والله أعلم .




                                                            الخدمات العلمية