الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق، ولعبده، أنت حر، فالطلاق والعتاق لا يقع مع التكلم بالتطليق والإعتاق، وإنما يقع عقب ذلك.

وإذا قال: إذا طلقت فلانة ففلانة طالق، لم تطلق الثانية إلا عقب طلاق الأولى، لا مع تطليق الأولى في الزمان، وهذا الذي عليه عامة العلماء قديما وحديثا، ولكن شرذمة من المتأخرين، الذين استزل هؤلاء عقولهم، ظنوا أن الطلاق يكون مع التكلم في الزمان، وهذا غلط عند عامة العلماء.

وكذلك إذا قال: إذا مت فأنت حر، فالمدبر يعتق عقب موت سيده، لا مع موت سيده.

وهكذا في الأمور الحسية، إذا قال: (كسرت الإناء فانكسر) ، و(قطعت الحبل فانقطع) ، فانكسار المنفعل وانقطاعه يحصل عقب كسر الكاسر وقطع القاطع، ولهذا إذا لم يكن المحل قابلا قيل: (قطعته فلم ينقطع، وكسرته فلم ينكسر) كما يقال: علمته فلم يتعلم.

ولفظ (التعليم، والقطع، والكسر) ونحو ذلك يراد به الفعل التام الذي يستلزم أثره، فهذا كالعلة التامة التي تستلزم معلولها لا تقبل التخصيص، ويراد به المقتضى الموجب المتوقف اقتضاؤه على شروط، فهذا قد يتخلف عنه موجبه. [ ص: 403 ]

ومن هذا الباب قوله تعالى: هدى للمتقين [البقرة: 2] ، وقوله: إنما أنت منذر من يخشاها [النازعات: 45] ، وقوله: إنما تنذر من اتبع الذكر [يس: 11] ، فالمراد به الهدى التام المستلزم لحصول الاهتداء، وهو المطلوب في قوله: اهدنا الصراط المستقيم .

وكذلك الإنذار التام المستلزم خشية المنذر وحذره مما أنذر به من العذاب، وهذا بخلاف قوله: وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى [فصلت: 17]، فالمراد به البيان والإرشاد المقتضي للاهتداء، وإن كان موقوفا على شروط وله موانع.

وهكذا إذا قيل: هو موجب بذاته، أو علة بذاته، ونحو ذلك،: إن أريد بذلك أنه موجب ما يوجبه من مفعولاته بمشيئته وقدرته، في الوقت الذي شاء كونه فيه، فهذا حق، لا منافاة بين كونه موجبا وفاعلا بالاختيار على هذا التفسير.

وإن أريد به أنه موجب بذات عرية عن الصفات، أو موجب تام لمعلول مقارن له - وهذا قول هؤلاء - وكل من الأمرين باطل.

فقد قامت الدلائل اليقينية على اتصافه بصفات الإثبات، وقامت الدلائل اليقينية على امتناع كون الأثر مقارنا للمؤثر وتأثيره في الزمان، ولو كان فاعلا بدون مشيئته وقدرته كالمؤثرات الطبيعية، فكيف في الفاعل بمشيئته وقدرته؟ فإن هذا مما يظهر للعقلاء امتناع أن يكون شيء من مقدوراته قديما أزليا لم يزل ولا يزال.

فمن تصور هذه الأمور تصورا تاما، علم بالاضطرار أنه يمتنع أن يكون في العالم شيء قديم، وهو المطلوب.

التالي السابق


الخدمات العلمية