الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
الوجه الثاني عشر : أن إضافة النور إليه سبحانه لو كان إضافة ملك وخلق لكانت الأنوار كلها نوره ، فكان نور الشمس والقمر والمصباح نوره ، فإن كانت حقيقة هذه الإضافة إضافة مخلوق إلى خالقه كان نوره حقيقة ، فيا عجبا لكم : أنكرتم أن يكون الله سبحانه نور السماوات والأرض حقيقة ، وأن يكون لوجهه نور حقيقة ، ثم جعلتم نور الشمس والقمر والمصابيح نوره حقيقة ، وقد علم الناس بالضرورة فساد هذا ، وأن نوره المضاف إليه يختص به لا يقوم بغيره ، فإن نور المصباح قام بالفتيلة منبسطا على السقوف والجدران ، وليس ذلك هو نور الرب تعالى الذي هو نور ذاته ووجهه الأعلى ، بل ذلك هو المضاف إليه حقيقة ، كما أن نور الشمس والقمر والمصابيح مضاف إليها حقيقة ، قال تعالى : ( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ) وقال تعالى : ( وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ) وقال تعالى : ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ) فهذا نور مخلوق قائم بجرم مخلوق لا يسمى به الرب تعالى ولا يوصف به ولا يضاف إليه إلا على جهة أنه مخلوق له مجهول لا على أنه وصف له قائم به ، فالتسوية بين هذا وبين نور وجهه الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة واستعاذ به العائذون من أبطل الباطل .

الوجه الثالث عشر : أن مثبتي الصفات كأبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبي الحسن الأشعري وأئمة أتباعهما لم يذكروا الخلاف في ذلك إلا عن المعتزلة ، [ ص: 425 ] فإنكار كونه نورا هو قول المبتدعة ، قال ابن فورك في كتابه الذي سماه مقالات أبي محمد بن كلاب وأبي الحسن الأشعري وذكر اتفاقهما إلا فيما ندر من الأمور اللفظية إلى أن قال : إن المشهور من مذهبه بأن الله سبحانه نور لا كأنوار حقيقة لا بمعنى أنه هاد ، وعلى ذلك نص في كتاب التوحيد في باب مفرد لذلك تكلم فيه على المعتزلة إذ تأولوا ذلك على معنى أنه هاد ، فقال : إن سأل سائل عن الله عز وجل أنور هو ؟ قيل له : كلامك يحتمل وجهين : إن كنت تريد أنه نور يتجزأ تجوز عليه الزيادة والنقصان فلا ، وهذه صفة النور المخلوق ، وإن كنت تريد معنى ما قاله الله سبحانه ( الله نور السماوات والأرض ) فالله سبحانه نور السماوات والأرض على ما قال .

فإن قال : فما معنى قولك نور ؟ قيل له : قد أخبرناك ما معنى النور المخلوق وما معنى النور الخالق ، وهو الله سبحانه الذي ليس كمثله شيء ، ومن تعدى أن يقول الله نور فقد تعدى إلى غير سبيل المؤمنين ; لأن الله لم يكن يسمي نفسه لعباده بما ليس هو به ، فإن قال : لا أعرف النور إلا هذا النور المضيء المتجزئ ، قيل له : فإن كان لا يكون نور إلا كذلك ، فكذلك لا يكون شيئا إلا وحكمه حكم ذلك الشيء .

ثم قال ابن فورك : فإذا قال الله عز وجل : إني نور ، قلت أنا : هو نور على ما قال سبحانه وتعالى ، وقلت أنت : ليس هو نور ، فمن المثبت له على الحقيقة أنا أو أنت ؟ وكيف يتبين الحق فيه إلا من جهة ما أخبر الله سبحانه ، والدافع لما قال الله كافر بالله ، وإن لزمنا أن لا نقول : إن الله نور لأن ذلك موجود في الخلق ؛ لزمنا أن لا نقول إن الله حي سميع بصير موجود ، لأن ذلك موجود في الخلق ، ومعنانا في هذا الباب خلاف معناكم ; لأن معناكم في ذلك التعطيل ، ومعنانا في قولنا : الله نور نثبت الله تعالى على ما ورد به في كتابه بما يسمى به عندنا ، فنحن متبعون ما أخبرنا به في كتابه ، فإن جاز لكم أن تقولوا شيئا لا كالأشياء جاز لنا أن نقول نور لا كالأنوار ، وأنتم ظلمة فيما سألتم ، جحدة لما أخبر به عن نفسه في كتابه ، ونحن وأنتم متفقون إن أقررتم بالكتاب أن لله نور السماوات والأرض ، ومختلفون في أن نقول : نور فقلنا نحن : نور ، وقلتم أنتم : لا نقول نور ، فإن زعمتم أن معنى نور معنى هاد قلنا لكم : فيجوز أن يكون غير نور بمعنى أنه هاد ، فإن قلتم : لا ، كذبتم القياس واللغة ، وإن قلتم : نعم ، قلنا لكم : سويتم بين النور والهادي الذي هو غير الله وبينه إن كان هو النور الهادي ومعنى هذا نور ، معنى كون هذا فقد استويا في معنيهما وأسمائهما فدخلتم فيما عبتم على مخالفيكم .

[ ص: 426 ] فإن قلتم : فالنور لا يكون إلا جسدا مجسدا أو ضياء ساطعا ، قلنا : ولا يكون عالم بصير إلا لحما ودما متجزئا متبعضا ، فإن جاز قياسكم على مخالفيكم جاز قياسه عليكم ، فإن قلتم : يجوز أن يكون عالم لا لحم ولا دم ، قيل لكم : كذلك يجوز أن يكون نور لا جسد ولا ضوء ساطع ، وليس لكم إلا التعطيل والنفي لله سبحانه .

قال ابن فورك : وإنما استوفيت هذا الفصل من كتابه رحمه الله بألفاظه لتحقيقه هذا الوصف لله تمسكا بحكم الكتاب وإنه لا يرى أن يعدل عن الكتاب ما وجد السبيل إلى التمسك به لرأي وهوى لا يوجبه أصل صحيح ، قال : فقد كشف عن ذلك بغاية البيان وأزال اللبس فيه وأن السمع هو الحجة في تسمية الله سبحانه ، ولا يجب أن يحمل على المجاز ، لأنه يوجب أن يحمل ما ورد به السمع من أسمائه تعالى على المجاز .

وقال أبو بكر بن العربي : قد اختلف الناس بعد معرفتهم بالنور على ستة أقوال : الأولى : معناه هاد ، قاله ابن عباس ، والثاني : معناه منور ، قاله ابن مسعود ، وروي أن في مصحفه منور السماوات والأرض ، والثالث : مزين ، وهو يرجع إلى معنى منور ، قاله أبي بن كعب ، الرابع : أنه ظاهر ، الخامس : ذو النور ، السادس أنه نور لا كالأنوار ، قاله أبو الحسن الأشعري .

قال : وقالت المعتزلة : لا يقال له : نور إلا بإضافة ، قال : والصحيح عندنا أنه نور لا كالأنوار ، لأنه حقيقة والعدول عن الحقيقة إلى أنه هاد ومنور وما أشبه ذلك هو مجاز من غير دليل لا يصح .

قلت : أما حكايته عن ابن عباس أنه بمعنى هاد فعمدته على التفسير الذي رواه الناس عن عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس ، وفي ثبوت ألفاظه عن ابن عباس نظر ; لأن الوالبي لم يسمعها من ابن عباس فهو منقطع ، وأحسن أحواله أن يكون منقولا عن ابن عباس بالمعنى ، ولو صح ذلك عن ابن عباس فليس مقصوده به نفي حقيقة النور عن الله ، وأنه ليس بنور ولا نور له ، كيف وابن عباس هو الذي سمع من النبي صلى الله عليه وسلم قوله في صلاة الليل : " اللهم لك الحمد ، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن " ، وهو الذي قال لعكرمة لما سأله عن قوله : ( لا تدركه الأبصار ) قال : ويحك ذاك نور ، إذا تجلى بنوره لم [ ص: 427 ] يدركه شيء ، كيف ولفظ الآية والحديث ينبو عن تفسير النور بالهادي ; لأن الهداية تختص بالحيوان وأما الأرض نفسها والسماء فلا توصف بهدى ، والقرآن والحديث وأقوال الصحابة صريح بأنه سبحانه وتعالى نور السماوات والأرض ، ولكن عادة السلف أن يذكر أحدهم في تفسير اللفظة بعض معانيها ولازما من لوازمها أو الغاية المقصودة منها أو مثالا ينبه السامع على نظيره ، وهذا كثير في كلامهم لمن تأمله ، فكونه سبحانه هاديا لا ينافي كونه نورا .

وأما ما ذكره عن ابن مسعود أنه بمعنى منور وأنها في مصحفه كذلك ، فهذا لا ينافي كونه في نفسه نورا وأن يكون النور من أسمائه وصفاته بل يؤكد ذلك ، فإن الموجودات النورانية نوعان ( منها ) ما هو في نفسه مستنير ولا ينير غيره كالجمرة مثلا ، فهذا لا يقال له نور ، ومنها ما هو مستنير في نفسه وهو منير لغيره كالشمس والقمر والنار ، وليس في الموجودات ما هو منور لغيره وهو في نفسه ليس بنور بل إنارته لغيره فرع كونه نورا في نفسه ، فقراءة ابن مسعود منور تحقيق لمعنى كونه نورا ، وهذا مثل كونه متكلما معلما مرشدا مقدرا لغيره ، فإن ذلك فرع كونه في نفسه متكلما عالما رشيدا قادرا ، قد صرح ابن مسعود بأن نور السماوات والأرض من نور وجهه تبارك وتعالى .

وأما ما حكاه عن أبي بن كعب أنه بمعنى مزين فلا أصل له عن أبي ، وهو بالكذب عليه أشبه ، فإن تفسير أبي لهذه الآية معروف ، رواه عنه أهل الحديث من طريق الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي ، ذكره ابن جريج ومعمر ووكيع وهشيم ، وابن المبارك وعبد الرزاق والإمام أحمد وإسحاق وخلائق غيرهم .

وذكر ابن جرير وسعيد وعبد بن حميد وابن المنذر في تفاسيرهم من طريق عبد الله بن موسى عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قول الله تعالى : ( الله نور السماوات والأرض ) قال : فبدأ بنور نمسه فذكره ، ثم ذكر نور المؤمن فقال ( مثل نوره ) يقول مثل نور المؤمن ، قال : وكان أبي بن كعب يقرؤها كذلك ( مثل نور المؤمن ) قال فهو عبد جعل الإيمان والقرآن في صدره ( كمشكاة ) قال المشكاة صدره ( فيها مصباح ) قال : المصباح القرآن والإيمان الذي جعل في صدره ( المصباح في زجاجة ) قال ( الزجاجة ) قلبه ، ( كأنها كوكب دري ) [ ص: 428 ] قال قلبه لما استنار فيه الإيمان والقرآن كأنه كوكب دري ، يقول : مضيء ( يوقد من شجرة مباركة ) قال فالشجرة المباركة الإخلاص لله وحده لا شريك له ( لا شرقية ولا غربية ) قال فمثله كمثل شجرة التف بها الشجر ، فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أي حال كانت لا إذا طلعت ولا إذا غربت ، قال فذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يضله شيء من الفتن وقد ابتلي بها فثبته الله ، فها هو بين أربع خلال : إن أعطي شكر ، وإن ابتلي صبر ، وإن قال صدق ، وإن حكم عدل ، فهو في الناس كرجل يمشي في قبور الأموات ، ( نور على نور ) فهو يتقلب في خمسة من النور ، فكلامه نور ، وعلمه نور ، ومدخله نور ، ومخرجه نور ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة .

قال : ثم ضرب مثلا آخر للكافر : ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة ) الآية ، قال : فكذلك الكافر في يوم القيامة ، وهو يحسب أن له عند الله خيرا فلا يجده فيدخله النار .

قال : وضرب مثلا آخر للكافر فقال : ( أو كظلمات في بحر لجي ) الآية ، فهو ينقلب في خمسة من الظلم : فكلامه ظلمة ، ومدخله ظلمة ، ومخرجه ظلمة ، ومصيره إلى الظلمات إلى النار .

فهذا التفسير المعروف عن أبي لا ما ذكره .

وأما قوله يصح أن يكون النور صفة فعل على معنى أنه ظاهر ، فما أبعده عن الصواب ، وكونه ظاهرا ليس بصفة فعل ، فإنه الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، وتلك صفات ذاته المقدسة لا أنها أفعال .

قال الأشعري في الإبانة : قال الله تعالى : ( الله نور السماوات والأرض مثل نوره ) فسمى نفسه نورا ، والنور عند الأمة لا يخلو من أحد معنيين : إما أن يكون نورا يسمع أو نورا يرى ، فمن زعم أن الله يسمع ولا يرى كان مخطئا في نفيه رؤية ربه وتكذيبه بكتابه عز وجل وقول نبيه صلى الله عليه وسلم ، هذا لفظه .

وقال القاضي أبو يعلى : فأما قوله في حديث جابر : ( بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور من فوق رءوسهم ، فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم قال : السلام عليكم يا أهل الجنة ، قال : فذلك قوله تعالى : ( سلام قولا من رب رحيم ) قال : فينظر [ ص: 429 ] إليهم وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه ، قال : فلا يمتنع حمله على ظاهره وأنه نور ذاته ، لأنه إذا جاز أن تظهر لهم ذاته فيرونها جاز أن يظهر لهم نورها فيرونه ، لأن النور من صفات ذاته وهو قوله : ( وأشرقت الأرض بنور ربها ) وذكر في موضع آخر قولين في ذلك ، ورجح هذا القول ، قال : وهو أشبه بكلام أحمد .

الوجه الرابع عشر : أن النور صفة الكمال ، وضده صفة نقص ، ولهذا سمى الله نفسه نورا ، وسمى كتابه نورا وجعل لأوليائه النور ولأعدائه الظلمة فقال : ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ) ويجيء الأنبياء يوم القيامة وأممهم لكل نبي نوران ، ولكل واحد من أتباعهم نور وتجيء هذه الأمة لكل منهم نوران ولنبيهم صلى الله عليه وسلم في كل شعرة نور ، ولما كانت مادة الملائكة التي خلقوا منها نورا ، كانوا بالمحل الذي أحلهم الله به وكانوا خيرا محضا ، وللنور ظاهر وباطن فمتى حل ظاهره بجسم كساه من الجمال والجلال والمهابة والضياء والحسن والبهجة والسناء بحسب ما كسي من النور وزالت عنه الوحشة والثقل ، وكان مفرحا لرائيه سارا لناظريه ، وإذا حل باطنه بالباطن اكتسى من الخير والعلم والرحمة والهداية والعفو والجود والصبر والحلم والتواضع والنصيحة بحسب ذلك النور ، فالنور في الحقيقة هو كمال العبد في الظاهر والباطن .

ولما كان ليوسف الصديق من هذا النور النصيب الوافر ظهر في جماله الظاهر والباطن ، فكان على الصفة التي ذكرها الله في كتابه ، وكذلك رسول الله لما كان نصيبه من هذا النور أكمل نصيب كان أجمل الخلق ظاهرا وباطنا ، فكان وجهه يتلألأ تلألأ القمر ليلة البدر ، وكان كلامه كله نورا ومدخله ومخرجه نورا ، فإذا تكلم رؤي النور يخرج من بين ثناياه ، فكان أكمل الخلق في نور الظاهر والباطن وكان نوره من أكبر آيات نبوته .

قال عبد الله بن سلام : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة انجفل الناس إليه فجئت [ ص: 430 ] حتى رأيته ، فلما وقع بصري عليه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، فكان أول ما سمعته يقول : " يا أيها الناس أفشوا السلام ، وصلوا الأرحام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام " ، فاستدل على نبوته بنور وجهه ونور كلامه بنوره المرئي ونوره المسموع ، كما قال حسان بن ثابت :

لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بداهته تأتيك بالخبر

أي ما يبدهك من وجهه ومنظره ونوره وبهائه ، وأخذه الصرصري فقال :

لو لم يقل إني رسول أما     شاهده في وجهه ينطق

فإذا كان هذا نور عبده فكيف بنوره سبحانه ، والرب تعالى هو الخالق للنور والظلمة كما استفتح سبحانه سورة الأنعام بقوله : ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) فاستفتح السورة بإبطال قول أهل الشرك أجمعين ، من الثنوية المجوس القائلين بأن للعالم نورين : نور وظلمة ، فأخبر أنه وحده رب النور والظلمة وخالقهما ، كما أنه وحده خالق السماوات والأرض ، والله تعالى جعل الموجودات عاليا وسافلا ومتوسطا بينهما ، وجعل لسافلها الظلمة ، وهي مسكن أهل الظلمات من خلقه ، وجعل لعاليها النور ، وهو مسكن أهل النور منهم ، وجعل هذه الأرض وما فوقها إلى العلو متوسطا بينهما ، فكلما كان أقرب إلى العرش والكرسي كان أعظم نورا ، ولذا كان فضل نور العرش والكرسي على ما تحته كفضل نور الشمس والقمر على أخفى الكواكب ، وكلما كان أقرب إلى السفلي المطلق كان أشد ظلمة ، ولهذا لما كان محبس أهل الظلمات سجين كانت سوداء مظلمة لا نور فيها بوجه ، فكلما كان أقرب إلى الرب تعالى كان أعظم نورا ظاهرا وباطنا ، وكلما بعد عنه كان أشد ظلمة بحسب بعده عنه .

وذكر الإمام أحمد في كتاب الزهد أن موسى أقام أياما لا يحدث بني إسرائيل إلا متبرقعا من النور الذي غشي وجهه حين كلمه ربه ، فلم يكن أحد ينظر إليه ، فنسبة الأنوار كلها إلى نور الرب كنسبة العلوم إلى علمه ، والقوى إلى قوته ، والغنى إلى [ ص: 431 ] غناه ، والعزة إلى عزته ، وكذلك باقي الصفات ، والعبد إذا سما بصره صعودا إلى نور الشمس غشي دون إدراكه وتعذر عليه غاية التعذر ، وأي نسبة لنور الشمس إلى نور خالقها ومبدعها ، وإذا كان نور البرق يكاد يلتمع البصر ويخطفه ولا يقدر العبد على إدراكه ، فكيف بنور الحجاب فكيف بما فوقه ، والأمر أعظم من أن يصفه واصف أو يتصوره عاقل ، فتبارك الله رب العالمين الذي أشرقت الظلمات بنور وجهه وعجزت الأفكار عن إدراك كنهه ودلت الآيات وشهدت الفطر باستحالة شبهه ، فلولا وصف نفسه لعباده لما أقدموا على وصفه ، فهو كما وصف نفسه وأثنى على نفسه ، وفوق ما يصفه الواصفون .

التالي السابق


الخدمات العلمية