الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

وثيقة المدينة (المضمون والدلالة)

أحمد قائد الشعيبي

رابعا: تاريخية الوثيقة ووحدتها صرحت المصادر بأن «الوثيقة» تمت أول قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وألحقت كل قوم بحلفائهم، قال الواقدي : «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وادعته يهود كلها، وكتب بينه وبينها كتابا وألحق رسول الله كل قوم بحلفائهم، وجعل بينه وبينهم أمانا، وشرط عليهم شروطا، فكان فيما شرط ألا يظاهروا عليه عدوا، فلما أصاب رسول الله أصحاب بدر وقدم المدينة بغت يهود وقطعت ما بينها وبين رسول الله من العهد» [1] .. صرح الواقدي [ ص: 47 ] بأن «الصحيفة» كانت بين سكان المدينة قبل بدر ، يتضح ذلك جليا من خلال الأحلاف التي كانت بينهم قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم فأقرهم على أحلافهم «وألحق رسول الله كل قوم بحلفائهم» وهذا ما يجعلنا نجزم بأنها تمت بين الجميع.

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : «وإنما كان هـذا الكتاب -فيما نرى- حدثان مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قبل أن يظهر الإسلام ويقوى، وقبل أن يؤمر بأخذ الجزية من أهل الكتاب، وكانوا ثلاث فرق: بنو قينقاع ، والنضير ، وقريظة » [2] . فأبو عبيد يرى أن «الوثيقة» كتبت حال قدوم النبي عليه السلام إلى المدينة، ولم يخص بالذكر موادعة النبي لليهود أو «الوثيقة» التي تحدد العلاقة بين المهاجرين والأنصار «وإنما كان هـذا الكتاب» عبارة صريحة وواضحة لا تحتمل التفسير أو التأويل بأن «الكتاب» تناول طرفا دون الآخر، وإنما تم بين جميع المتساكنين لتنظيم حياتهم وسبل عيشهم جنبا إلى جنب. وقد زاد هـذا التصريح توكيدا ما أورده الهراس من تعليق قائلا: «يعني إبان قدومه المدينة ويعتبر دليلا على عظمته السياسية وبعد نظره، فقد ربط أهل المدينة كلهم بهذا الحلف حتى يجعل منهم حصنا منيعا يقيها شر الغزو ويضمن به ولاء اليهود ويأمن به غدرهم» [3] .

أما ابن زنجويه فقد أورد نص الكتاب كاملا مبتدءا قوله: «هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين وأهل يثرب وموادعته يهودها، مقدمه المدينة» [4] [ ص: 48 ] فقد جزم بأن «الكتاب» وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار وموادعة اليهود قبل بدر حال قدومه عليه السلام إلى المدينة ، وهو ما ذهب إليه من قبله أبو عبيد إلا أن ابن زنجويه ذكر الأطراف التي شملتها «الوثيقة» بالتفصيل (المؤمنون من أهل يثرب ويهودها) زيادة في التوكيد والإيضاح وتجنبا للوقوع في الغموض والالتباس.

يقول البلاذري (ت 276 هـ) «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، وادعته يهودها كلها، وكتب بينه وبينهم كتابا، فلما أصاب صلى الله عليه وسلم أصحاب بدر وقدم المدينة سالما غانما موفورا، بغت وقطعت العهد» [5] . وهكذا أكد البلاذري أن موادعـة الرسـول صلى الله عليه وسلم لليهود كانت قبل غزوة بدر، ولكنه لم يذكر «الوثيقة» التي توضح التزامات المسلمين من مهاجرين وأنصار وحقوقهم وواجباتهم سواء قبل بدر أو بعدها، ولا نظن أنه قد أهمل ذكرها، وإنما يغلب الظن أنه خص بالذكر موادعة اليهود من «الوثيقة»، وهو يتحدث عن سبب غزوة بني قينقـاع والتي كانت نتيجة لما أظهره هـؤلاء من الحسد والبغي والنقض للعهد، وهذا ما سـار عليه أبو جعفر الطبري (ت 310هـ) إذ يقول: «ثم أقام رسول الله بالمدينة منصرفه من بدر، وكان قد وادع حين قدم المدينة يهودها، على ألا يعينوا عليه أحدا، وأنه إن دهمه بها عدو نصروه، فلما قتل رسول الله من قتل ببدر من مشركي قريش أظهروا له الحسد وقالوا: لم يلق محمد من يحسـن القتال، ولو لقينا لاقى عندنا قتالا لا يشبهه قتال أحد، وأظهروا نقض العهد» [6] . [ ص: 49 ] نلاحظ أن الطبري يتفق مع البلاذري في مناسبة ذكر موادعة اليهود وهي عودة النبي من موقعة بدر غانما وظهور غدر اليهود بنقضهم العهد، وهو ما يسـتوجب تخصـيص ذكر من أحدث وغير ما تم الاتفاق عليه وما ترتب عن ذلك من أخطـار هـددت أمن المجتمع المديني ووحدته. كما وردت «الوثيقة» بنفس الروايات السابقة في «الكامل في التاريخ [7] وتاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس» [8] .

وكذلك نجد المراجع الحديثة اهتمت بدراسة «الوثيقة» من ناحيتها التاريخية، فقد اختلفت آراء المؤرخين المسلمين والمستشرقين حول تاريخية «الوثيقة» ووحدتها، فمنهم القائل بأنها وضعت غداة وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكانت بمثابة أول دستور وضع في الإسلام، يعيش في ظله المسلمون وأهل الكتاب على السواء [9] . ومنهم القائل: بأن النبي صلى الله عليه وسلم وضع دستورا ينظم الحياة العامة في المدينة ويحدد العلاقات بينها وبين جيرانها قبل انصرام [ ص: 50 ] العام الأول للهجرة [10] ، أي قبل موقعه بدر [11] .. ويؤكد أحمد إبراهيم الشريف أن «الوثيقة» كتبت قبل بدر قائلا: «ولا نكاد نعرف من قبل دولة قامت منذ أول أمرها على أساس دستور مكتوب غير هـذه الدولة الإسلامية، فإنما تقوم الدول أولا ثم يتطور أمرها إلى وضع دستور، ولكن النبي ما كاد يستقر في المدينة وما كاد العام الأول من هـجرته إليها ينتهي حتى كتب هـذه «الصحيفة» التي جعل طرفها الأول المهاجرين، والطرف الثاني الأنصار، وهم الأوس والخزرج ، والطرف الثالث اليهود من أهل يثرب» [12] .

بينما نجد بعض المؤرخين، وهم قلة، يقول: إن هـذا الكتاب «أصدره الرسول بعد ثبات كيان الإسلام على إثر انتصاره في موقعة بدر الكبرى، ذلك الانتصار الذي كان مبعث قوة معنوية كبيرة للمسلمين، وهو أول دستور شامل ينظم شئون الأمة في المدينة» [13] . [ ص: 51 ] أما الفريق الثالث فهو صاحب الرأي القائل بأن «الوثيقة» في الأصل وثيقتان إحداهما تتعلق بموادعة اليهود كتبت قبل بدر أول قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، والثانية توضح التزامات المسلمين من مهاجرين وأنصار وحقوقهم وواجباتهم وكتبت بعد موقعة بدر الكبرى لكن المؤرخين جمعوا بين الوثيقتين [14] .

وهناك رأي رابع يذهب إلى أن «الوثيقة» تشتمل على سلسلة من المعاهدات المنفصلة ضمت دون تمييز وجمعت في مكان واحد، فتبدو متداخلة في بعض المواضع ومكملا بعضها بعضا في مواضع أخرى، فمن ذلك تكرار فقرات بأكملها تنص على التزامات وشروط واحدة كما هـو الحال في الفقرتين: (23 و42) اللتين تنصان على رد أي خلاف ينجم بين المتعاهدين إلى الله ورسوله، والفقرتين: (24 و38) اللتين تنصان على أن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين، والفقرتين: (37 و44) اللتين تنصان على مناصرة الأطراف لبعضهم بعضا على من دهم يثرب، والفقرتين: (30 و46) اللتين تتحدثان على ما ليهود بني الأوس من حقوق، والفقرتين: (37 و45ب) اللتين تذكران نفس الشروط حين تتحدثان عن النفقات التي تلزم جانبي اليهود وبقية الأمة في يثرب، والفقرتين: (20ب و43) اللتين تحرمان إجارة قريش ومالها [15] .

أما آراء المؤرخين المستشرقين حول تاريخ وضع «الصحيفة» ووحدتها فقد ذهب بعضهم أمثال ( فلهاوزن ) و ( ولفنسون ) و ( كايتاني ) إلى أنها وضعت قبل بدر، فقد [ ص: 52 ] صرح «فلهاوزن»، قائلا: «وقد حفظت لنا الأيام في العصر الأول بعد الهجرة، قبل موقعة بدر «كتابا» لمحمد ( عليه السلام ) بين بعض النقاط الكبرى في القانون الذي ينظم الحياة العامة والسياسية وكان معمولا به في المدينة أول الأمر» [16] .

بينما يضعها « هـدبيرجريم » بعد موقعة بدر معللا قوله: «بأن الوظائف المنسـوبة لمحمـد في البندين (23 و 36) وهي الطاعة له صلى الله عليه وسلم والبنود (17و19 و45) التي تشـير إلى القتال الذي كان قد وقع مع القوة المعادية -أي أن موقعة بدر مع قريش وقعت قبل وضع الوثيقة- هـو أمر لا يمكن أن يطلب من المؤمنين المدينيين إلا بعد بدر» [17] .

ويذهب بعض آخر من المستشرقين كـ «مونتجومرى واط» إلى القول: بأن «الوثيقة» تعود في شكلها الحاضر إلى عام 627 م وهو العام الذي انتهى فيه إبعاد أو تصفية القبائل اليهودية الرئيسية الثلاث ( قينقاع ، النضير وقريظة ) ولا يرد ذكر القبيلتين الأخيرتين في الوثيقة،بل يشار إلى وجود مجموعات صغيرة من اليهود في المدينة بعد عام 627م [18] .

وأيا ما كانت الآراء حول تاريخية «الوثيقة»، فإن المصادر الإسلامية التي رجعنا إليها والتي أوردت «الصحيفة» كاملة أو نتفا منها، شبه مجمعة على أنها تخص المهاجرين والأنصار وموادعة يهود المدينة بعد هـجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقبل موقعة بدر الكبرى . [ ص: 53 ] والذي أراه وأطمئن إليه هـو أن «الوثيقة» قد كتبت بعد الهجرة وقبل موقعة بدر الكبرى، وأنها شملت القبائل العربية واليهودية كلها، التي ورد ذكرها على هـيئة بطون بما يتوافق مع تركيبة القبيلة العربية وأحلافها؛ لأن القبيلة اسم عام ينضوي تحته عدة طوائف لكل طائفة الحق في عقد الأحلاف مع البطون الأخرى بمعزل عن القبيلة الأم.

التالي السابق


الخدمات العلمية