الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ قول الصحابي من السنة كذا :]

60 - قوله: (ص): "وهكذا قول الصحابي - رضي الله عنه – "من السنة كذا فالأصح أنه مرفوع ..." إلى آخره.

قال القاضي أبو الطيب : هو ظاهر مذهب الشافعي - رضي الله عنه - لأنه احتج على قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة بصلاة ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - على جنازة وقراءته بها وجهره.

وقال: إنما فعلت لتعلموا أنها سنة .

وكذا جزم السمعاني بأنه مذهب الشافعي - رضي الله تعالى عنه.

وقال ابن عبد البر : "إذا أطلق الصحابي - رضي الله تعالى عنه - السنة فالمراد بها سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يضفها إلى صاحبها كقولهم: سنة العمرين .

ومقابل الأصح خلاف الصيرفي من الشافعية والكرخي والرازي من الحنفية وابن حزم الظاهري . بل حكاه إمام الحرمين في البرهان عن المحققين.

[ ص: 524 ] وجرى عليه ابن القشيري ، وجزم ابن فورك وسليم الرازي وأبو الحسين بن القطان والصيدلاني من الشافعية - بأنه الجديد من مذهب الشافعي - رضي الله عنه - .

وكذا حكاه المازري في شرح البرهان.

وحكوا كلهم أن الشافعي - رضي الله تعالى عنه - كان في القديم يراه مرفوعا وحكوا تردده في ذلك [في] الجديد، لكن نص الشافعي - رضي الله عنه - في الأم وهو من الكتب الجديدة على ذلك.

فقال - في باب عدد الكفن بعد ذكر ابن عباس والضحاك بن قيس - رضي الله عنهما - : "رجلان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا يقولان السنة إلا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-" .

وروى في الأم أيضا عن سفيان عن أبي الزناد قال:

سئل سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته؟

قال: يفرق بينهما.

قال أبو الزناد : فقلت: سنة؟ .

فقال سعيد : سنة .

[ ص: 525 ] قال الشافعي : الذي يشبه قول سعيد سنة أن يكون أراد سنة النبي - صلى الله عليه وسلم-. انتهى.

وحينئذ فله في الجديد قولان. وبه جزم الرافعي .

ومستندهم أن اسم السنة متردد بين سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - - وسنة غيره. كما قال - صلى الله عليه وسلم - : "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين" .

وأجيب بأن احتمال إرادة النبي - صلى الله عليه وسلم- أظهر لوجهين:

1 – أحدهما: أن إسناد ذلك إلى سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المتبادر إلى الفهم، فكان الحمل عليه أولى.

2 - الثاني: أن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أصل.

وسنة الخلفاء الراشدين تبع لسنته.

والظاهر من مقصود الصحابي - رضي الله تعالى عنه - إنما هو بيان الشريعة ونقلها، فكان إسناد ما قصد بيانه إلى الأصل أولى من إسناده إلى التابع - والله أعلم - .

ومما يؤيد مذهب الجمهور: ما رواه البخاري في صحيحه عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنهما -.

[ ص: 526 ] إن الحجاج عام نزل بابن الزبير - رضي الله تعالى عنهما – سأل عبد الله (يعني ابن عمر رضي الله تعالى عنهما) كيف يصنع في الموقف يوم عرفة ، فقال سالم - رضي الله تعالى عنه - : إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة يوم عرفة .

فقال ابن عمر - رضي الله عنهما - : صدق
.

قال الزهري : فقلت لسالم : أفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟

قال: وهل يتبعون في ذلك (إلا سنته)- صلى الله عليه وسلم - ؟.

واستدل ابن حزم على أن قول الصحابي - رضي الله عنه - :

من السنة كذا ليس بمرفوع بما في البخاري من حديث ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - .

قال: أليس حسبكم سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - إن حبس أحدكم في الحج فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ، ثم حل من كل شيء حتى يحج قابلا فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديا.


قال ابن حزم : "لا خلاف بين أحد من الأمة أنه - صلى الله عليه وسلم - إذ صد عن البيت لم يطف به ولا بالصفا والمروة ، بل حل حيث كان [ ص: 527 ] بالحديبية ، وإن هذا الذي ذكره ابن عمر - رضي الله تعالى عنه - لم يقع منه قط.

قلت: إن أراد بأنه لم يقع من فعله، فمسلم ولا يفيده وإن أراد أنه لم يقع من قوله فممنوع.

وما المانع منه؟ بل الدائرة أوسع من القول أو الفعل وغيرهما، وبه ينتقض استدلاله ويستمر ما كان على ما كان.

تنبيهات:

أحدها: إذا أضاف الصحابي - رضي الله عنه - السنة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فمقتضى كلام الجمهور أنه يكون مرفوعا قطعا.

وفيه خلاف ابن حزم المذكور.

ونقل أبو الحسين ابن القطان عن الشافعي - رضي الله عنه - أنه قال: "قد يجوز أن يراد بذلك ما هو الحق من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومثل ذلك بقول عمر - رضي الله عنه - للصبي بن معبد هديت لسنة نبيك" .

وجزم شيخنا شيخ الإسلام في محاسن الاصطلاح أنها على مراتب في احتمال الوقف قربا وبعدا.

[ ص: 528 ] قال: فأرفعها مثل قول ابن عباس - رضي الله عنهما - : الله أكبر سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم- .

ودونها قول عمرو بن العاص - رضي الله عنه - : "لا تلبسوا علينا سنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - عدة أم الولد كذا" .

ودونها قول عمر - رضي الله عنه - لعقبة بن عامر - رضي الله عنه: "أصبت السنة" .

إذ الأول أبعد احتمالا والثاني أقرب احتمالا، والثالث لا إضافة فيه.

ثانيها: نفي البيهقي الخلاف، عن أهل النقل في ذلك كما تقدم قبل وسبقه إلى ذلك الحاكم فقال: في الجنائز من المستدرك أجمعوا على أن قول الصحابي - رضي الله عنه - سنة كذا حديث مسند.

[ ص: 529 ] [حكم ما ينسب الصحابي فاعله إلى الكفر والعصيان ] :

ثالثها: لم يتعرض ابن الصلاح إلى بيان حكم ما ينسب الصحابي فاعله إلى الكفر أو العصيان، كقول ابن مسعود - رضي الله عنه: "من أتى عرافا أو كاهنا أو ساحرا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على [قلب] محمد - صلى الله عليه وسلم –" .

وفي رواية: بما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - .

وكقول أبي هريرة - رضي الله عنه - : "ومن لم يجب الدعوة، فقد عصى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.

وقوله - في الخارج من المسجد بعد الأذان: "أما هذا فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم –" .

[ ص: 530 ] وقول عمار بن ياسر - رضي الله عنه - : "من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم –" .

فهذا ظاهره أن له حكم الرفع، ويحتمل أن يكون موقوفا لجواز إحالة الإثم على ما ظهر من القواعد.

والأول أظهر بل حكى ابن عبد البر الإجماع على أنه مسند.

وبذلك جزم الحاكم في علوم الحديث والإمام فخر الدين في المحصول .

التالي السابق


الخدمات العلمية