الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 595 ] 80 - قوله: (ص): "وقد قيل: إن القول الذي رده مسلم هو الذي عليه أئمة هذا العلم: علي بن المديني والبخاري وغيرهما" .

قلت: ادعى بعضهم أن البخاري إنما التزم ذلك في جامعه لا في أصل الصحة، وأخطأ في هذه الدعوى، بل هذا شرط في أصل الصحة عند البخاري /، فقد أكثر من تعليل الأحاديث في تاريخه بمجرد ذلك.

وهذا المذهب هو مقتضى كلام الشافعي -رضي الله تعالى عنه - فإنه قال في "الرسالة" في باب خبر الواحد:

"فإن قيل: فما بالك قبلت ممن لا تعرفه بالتدليس أن يقول: "عن" وقد يمكن فيه أن يكون لم يسمعه؟

فقلت له: المسلمون العدول أصحاء الأمر وحالهم في أنفسهم غير حالهم في غيرهم، ألا ترى أني إذا عرفتهم بالعدالة في أنفسهم قبلت شهادتهم، وإذا شهدوا على شهادة غيرهم لم أقبل حتى أعرف حاله. وأما قولهم عن أنفسهم، فهو على الصحة حتى يستدل من فعلهم بما يخالف ذلك، فنحترس منهم في [الموضع] الذي خالف فعلهم فيه ما يجب عليهم.

ولم أدرك أحدا من أصحابنا يفرق بين أن يقول حدثني فلان أو سمعت فلانا أو عن فلان إلا فيمن دلس، فمن كان بهذه المثابة قبلنا منه ومن عرفناه دلس مرة، فقد أبان لنا عورته، فلا نقبل منه حديثا حتى يقول: حدثني أو سمعت ... إلى آخر كلامه.

[ ص: 596 ] فذكر أنه إنما قبل العنعنة لما ثبت عنده أن المعنعن غير مدلس ، وإنما يقول عن فيما سمع فأشبه ما ذهب إليه البخاري من أنه إذا ثبت اللقي ولو مرة حملت عنعنة غير المدلس على السماع مع احتمال أن لا يكون سمع بعض ذلك أيضا، والحامل للبخاري على اشتراط ذلك تجويز أهل ذلك العصر للإرسال فلو لم يكن مدلسا، وحدث عن بعض من عاصره لم يدل ذلك على أنه سمع منه، لأنه وإن كان غير مدلس، فقد يحتمل أن يكون أرسل عنه لشيوع الإرسال بينهم، فاشترط أن يثبت أنه لقيه وسمع منه ليحمل ما يرويه عنه بالعنعنة على السماع، لأنه لو لم يحمل على السماع لكان مدلسا والغرض السلامة من التدليس.

فتبين رجحان مذهبه.

وأما احتجاج مسلم على فساد ذلك بأن لنا أحاديث اتفق الأئمة على صحتها، ومع ذلك ما رويت إلا معنعنة ولم يأت في خبر قط أن بعض رواتها لقي شيخه، فلا يلزم من نفي ذلك عنده نفيه في نفس الأمر.

وقد ذكر علي بن المديني في كتاب العلل أن أبا عثمان النهدي لقي عمر وابن مسعود وغيرهما، وروى عن أبي بن كعب وقال في بعض حديثه: حدثني أبي بن كعب ، انتهى.

وقد قطع مسلم بأنه لم يوجد في رواية بعينها أنه لقي أبي بن كعب أو سمع منه.

وأعجب من ذلك أنا وجدنا بطلان بعض ما نفاه في نفس صحيحه. من ذلك: قوله /: [ ص: 597 ] "وأسند النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ثلاثة أحاديث". وقال: في آخر كلامه: فكل هؤلاء التابعين الذين نصبنا روايتهم عن الصحابة - رضي الله عنهم - الذين سميناهم لم يحفظ عنهم سماع علمناه منهم في رواية بعينها ولا أنهم لقوهم في نفس خبر بعينه انتهى.

وقد روى في صحيحه في كتاب المناقب من طريق أبي حازم ، عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: "سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: أنا فرطكم على الحوض ..." الحديث إلى أن قال: ثم يحال بيني وبينهم . قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش وأنا أحدث بهذا الحديث فقال: أهكذا سمعت سهلا يقول؟ فقلت: نعم.

قال: فأنا أشهد على أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - لسمعته يقول: إنهم مني فيقال: إنك لا تدري ما عملوا بعدك فأقول: سحقا سحقا لمن بدل بعدي" .

[ ص: 598 ] وأخرج - أيضا - في كتابه صفة الجنة في صحيحه من طريق أبي حازم أيضا عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أهل الجنة ليتراءون الغرفة في الجنة كما يتراءون الكوكب في السماء" .

قال: فحدثت بذلك النعمان بن أبي عياش فقال: سمعت أبا سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنه - يقول: "كما ترون الكوكب الدري في الأفق الشرقي أو الغربي" .

وأخرج أيضا عن أبي حازم عن سهل بن سعد - رضي الله تعالى عنه - في الكتاب المذكور حديث "إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها .

فقال النعمان : حدثني أبو سعيد - رضي الله تعالى عنه - بلفظ: يسير الراكب الجواد المضمر السريع" .

فهذه الثلاثة الأحاديث التي أشار إليها قد ذكرها هو في كتابه مصرحا فيها بالسماع، فكيف لا يجوز ذلك في غيرها. وإنما كان يتم له النقض والإلزام لو رأى في صحيح البخاري حديثا معنعنا لم يثبت لقي راويه لشيخه فيه، فكان ذلك واردا عليه، وإلا فتعليل البخاري لشرطه المذكور متجه - والله أعلم - .

التالي السابق


الخدمات العلمية