الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 687 ] 105 - قوله: (ص): "وقد رأيت تقسيم الزيادات إلى ثلاثة أقسام":

1- أحدها: ما يقع منافيا لما رواه الثقات، وهذا حكمه الرد - يعني لأنه يصير شاذا - .

2- والثاني: أن لا يكون فيه منافاة، فحكمه القبول، لأنه جازم بما رواه وهو ثقة ولا معارض لروايته، لأن الساكت عنها لم ينفها لفظا ولا معنى . لأن مجرد سكوته عنها لا يدل على أن راويها وهم فيها.

3- والثالث: ما يقع بين هاتين المرتبتين مثل زيادة لفظة في حديث لم يذكرها سائر من روى ذلك الحديث.

يعني وتلك اللفظة توجب قيدا في إطلاق أو تخصيصا لعموم ففيه مغايرة في الصفة ونوع مخالفة يختلف الحكم بها.

"فهو يشبه القسم الأول من هذه الحيثية ويشبه القسم الثاني من حيث أنه لا منافاة في الصورة" .

قلت: لم يحكم ابن الصلاح على هذا الثالث بشيء.

والذي يجري على قواعد المحدثين أنهم لا يحكمون عليه بحكم مستقل من القبول والرد، بل يرجحون بالقرائن كما قدمناه في مسألة تعارض الوصل والإرسال.

على أن القسم الأول الذي حكم عليه المصنف بالرد مطلقا، قد نوزع فيه وجزم ابن حبان والحاكم وغيرهما بقبول زيادة الثقة مطلقا في سائر الأحوال سواء اتحد المجلس أو تعدد، سواء أكثر الساكتون أو تساووا.

[ ص: 688 ] وهذا قول جماعة من أئمة الفقه والأصول، وجرى على هذا الشيخ محيي الدين النووي في مصنفاته.

وفيه نظر كثير; لأنه يرد عليهم الحديث الذي يتحد مخرجه فيرويه جماعة من الحفاظ الأثبات على وجه، ويرويه ثقة دونهم في الضبط والإتقان على وجه (يشمل على زيادة) تخالف ما رووه إما في المتن وإما في الإسناد، فكيف تقبل زيادته وقد خالفه من لا يغفل مثلهم عنها لحفظهم أو لكثرتهم، ولا سيما إن كان شيخهم ممن يجمع حديثه ويعتنى بمروياته كالزهري وأضرابه بحيث يقال: إنه لو رواها لسمعها منه حفاظ أصحابه، ولو سمعوها لرووها ولما تطابقوا على تركها، والذي يغلب على الظن في هذا وأمثاله تغليط راوي الزيادة، وقد نص الشافعي في الأم على نحو هذا فقال - في زيادة مالك ومن تابعه في حديث: "فقد عتق منه ما عتق" : إنما يغلط الرجل بخلاف من هو أحفظ منه أو بأن يأتي بشيء يشركه فيه من لم يحفظه عنه ، وهم عدد وهو منفرد".

فأشار إلى أن الزيادة متى تضمنت مخالفة الأحفظ أو الأكثر عددا أنها تكون مردودة.

وهذه الزيادة التي زادها مالك لم يخالف فيها من هو أحفظ منه ولا أكثر عددا فتقبل، وقد ذكر الشافعي - رضي الله عنه - هذا في مواضع وكثيرا ما يقول: العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد.

وقال ابن خزيمة في صحيحه : [ ص: 689 ] "لسنا ندفع أن تكون الزيادة مقبولة من الحفاظ، ولكنا نقول: إذا تكافأت الرواة في الحفظ والإتقان، فروى حافظ عالم بالأخبار زيادة في خبر قبلت زيادته.

فإذا تواردت الأخبار، فزاد وليس مثلهم في الحفظ زيادة لم تكن تلك الزيادة مقبولة".

وقال / الترمذي في أواخر الجامع : "وإنما تقبل الزيادة ممن يعتمد على حفظه".

وفي سؤالات السهمي للدارقطني : "سئل عن الحديث إذا اختلف فيه الثقات ؟".

قال: ينظر ما اجتمع عليه ثقتان فيحكم بصحته، أو ما جاء بلفظة زائدة، فتقبل تلك الزيادة من متقن، ويحكم لأكثرهم حفظا وثبتا على من دونه".

قلت: وقد استعمل الدارقطني ذلك في "العلل" "والسنن" كثيرا فقال: في حديث رواه يحيى بن أبي كثير عن أبي عياش عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - في النهي عن بيع الرطب بالتمر نسيئة:

قد رواه مالك وإسماعيل بن أمية وأسامة بن زيد والضحاك بن [ ص: 690 ] عثمان عن أبي عياش ، فلم يقولوا: نسيئة، واجتماعهم على خلاف ما رواه يحيى يدل على ضبطهم ووهمه" .

وقال ابن عبد البر في التمهيد: "إنما تقبل الزيادة من الحافظ إذا ثبت عنه وكان أحفظ وأتقن ممن قصر أو مثله في الحفظ، لأنه كأنه حديث آخر مستأنف.

وأما إذا كانت الزيادة من غير حافظ، ولا متقن، فإنها لا يلتفت إليها.

وسيأتي إن شاء الله كلام الخطيب بنحو هذا.

فحاصل كلام هؤلاء الأئمة أن الزيادة إنما تقبل ممن يكون حافظا متقنا حيث يستوي مع من زاد عليهم في ذلك، فإن كانوا أكثر عددا منه أو كان فيهم من هو أحفظ منه أو كان غير حافظ ولو كان في الأصل صدوقا فإن زيادته لا تقبل.

وهذا مغاير لقول من قال: زيادة الثقة مقبولة وأطلق - والله أعلم.

واحتج من قبل الزيادة من الثقة مطلقا بأن الراوي إذا كان ثقة وانفرد بالحديث من أصله كان مقبولا، فكذلك انفراده بالزيادة وهو احتجاج مردود، لأنه ليس كل حديث تفرد به أي ثقة كان يكون مقبولا كما سبق بيانه في نوع الشاذ.

[ ص: 691 ] ثم إن الفرق بين تفرد الراوي بالحديث من أصله وبين تفرده بالزيادة ظاهر، لأن تفرده بالحديث لا يلزم منه تطرق السهو والغفلة على غيره من الثقات إذ لا مخالفة في روايته لهم - بخلاف تفرده بالزيادة إذا لم يروها من هو أتقن منه حفظا وأكثر عددا فالظن غالب بترجيح روايتهم على روايته.

ومبنى هذا الأمر على غلبة الظن.

واحتج بعض أهل الأصول بأنه من الجائز أن يقول الشارع كلاما في وقت، فيسمعه شخص ويزيده في وقت آخر فيحضره غير الأول، ويؤدي كل منهما ما سمع (وبتقدير اتحاد المجلس فقد يحضر أحدهما في أثناء الكلام فيسمع) ناقصا ويضبطه الآخر تاما أو ينصرف أحدهما قبل فراغ الكلام ويتأخر الآخر، وبتقدير حضورها فقد يذهل أحدها أو يعرض له ألم أو جوع أو فكر شاغل أو غير ذلك من الشواغل ولا يعرض لمن حفظ الزيادة ، ونسيان الساكت محتمل والذاكر مثبت.

والجواب عن ذلك أن الذي يبحث فيه أهل الحديث في هذه المسألة، إنما هو في زيادة (بعض الرواة) من التابعين فمن بعدهم.

أما الزيادة الحاصلة من بعض الصحابة على صحابي آخر إذا صح السند إليه فلا يختلفون في قبولها (كحديث) أبي هريرة - رضي الله عنه - الذي في [ ص: 692 ] "الصحيحين" في قصة آخر من يخرج من النار، وأن الله تعالى يقول له - بعد أن يتمنى ما يتمنى -: لك ذلك ومثله معه ، وقال أبو سعيد الخدري : أشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لك ذلك وعشرة أمثاله .

وكحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - : "الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء" متفق عليه . وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عند البخاري : "فأبردوها بماء زمزم" .

وإنما الزيادة التي يتوقف أهل الحديث في قبولها من غير الحافظ حيث يقع في الحديث الذي يتحد مخرجه، كمالك عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - إذا روى الحديث جماعة من الحفاظ الأثبات العارفين بحديث ذلك الشيخ وانفرد دونهم بعض رواته بزيادة، فإنها لو كانت محفوظة لما غفل الجمهور من رواته عنها.

فتفرد واحد عنه بها دونهم مع توفر (دواعيهم) على الأخذ عنه وجمع حديثه يقتضي ريبة توجب التوقف عنها.

[ ص: 693 ] وأما ما حكاه ابن الصلاح عن الخطيب ، فهو وإن نقله عن الجمهور من الفقهاء وأصحاب الحديث، فقد خالف في اختياره، فقال: بعد ذلك: "والذي نختاره أن الزيادة مقبولة إذا كان راويها عدلا حافظا ومتقنا ضابطا" .

قلت: وهو توسط بين المذهبين، فلا ترد الزيادة من الثقة مطلقا ولا نقبلها مطلقا. وقد تقدم مثله عن ابن خزيمة وغيره وكذا قال ابن طاهر : إن الزيادة إنما تقبل عند أهل الصنعة من الثقة المجمع عليه.

تنبيه:

سبق المؤلف إلى التفصيل الذي فصله إمام الحرمين في البرهان فقال: بعد أن حكى عن الشافعي وأبي حنيفة - رضي الله عنهما - : "قبول زيادة الثقة فقال: "هذا عندي فيما إذا سكت الباقون فإن صرحوا بنفي ما نقله هذا الراوي مع إمكان اطلاعهم فهذا يوهن قول قائل الزيادة" .

وفصل أبو نصر ابن الصباغ في العدة تفصيلا آخر بين أن يتعدد المجلس، فيعمل بهما، لأنهما كالخبرين أو يتحد، فإن كان الذي نقل الزيادة واحدا والباقون جماعة لا يجوز عليهم الوهم سقطت الزيادة، وإن كان بالعكس، وكان كل من الفريقين جماعة فالقبول، وكذا إن كان كل منهما واحدا حيث يستويان وإلا فرواية الضابط منهما أولى بالقبول.

[ ص: 694 ] وقال الإمام فخر الدين : "إن كان الممسك عن الزيادة أضبط من الراوي لها فلا تقبل. وكذا إن صرح بنفيها، وإلا قبلت" .

وقال الآمدي وجرى عليه ابن الحاجب : إن اتحد المجلس فإن كان من لم يروها، قد انتهوا إلى حد لا تقتضي العادة غفلة مثلهم عن سماعها والذي رواها واحد فهي مردودة وإن لم ينتهوا إلى هذا الحد فاتفق جماعة الفقهاء والمتكلمين على قبول الزيادة خلافا لجماعة من المحدثين".

قلت: وللأصوليين تفاصيل غير هذه، فقال بعضهم: تقبل إن كانت غير مغيرة للإعراب" .

وقال بعضهم: تقبل ممن لم يكن مشتهرا برواية الزيادة في الوقائع.

وقال بعضهم: تقبل الزيادة إن لم تشتمل على حكم شرعي ويفصل فيها إن اشتملت /.

وقال أبو نصر ابن القشيري : "إن رواه مرة، (ثم نقله) أخرى وزاد فلا تقبل زيادته وأما إذا أسند زيادة دائما فتقبل".

[ ص: 695 ] فائدة:

حكى ابن الصلاح عن الخطيب فيما إذا تعارض الوصل والإرسال أن الأكثر من أهل الحديث يرون أن الحكم لمن أرسل.

وحكى عنه هنا أن الجمهور من أئمة الفقه والحديث يرون أن الحكم لمن أتى بالزيادة إذا كان ثقة .

وهذا ظاهره التعارض ومن أبدى فرقا بين المسألتين فلا يخلو من تكلف وتعسف.

وقد جزم ابن الحاجب أن الكل بمعنى واحد، فقال: "وإذا أسند الحديث وأرسلوه أو رفعه ووقفوه أو وصله وقطعوه، فحكمه حكم الزيادة على التفصيل السابق .

ويمكن الجواب عن الخطيب ، بأنه لما حكى الخلاف في المسألة الأولى عن أهل الحديث خاصة عبر بالأكثر وهو كذلك، ولما حكى الخلاف في المسألة الثانية عنهم وعن أهل الفقه والأصول وصار الأكثر في جانب مقابله ولا يلزم من ذلك دعوى فرق بين المسألتين - والله أعلم - .

ونقل الحافظ العلائي عن شيخه ابن الزملكاني أنه فرق بين مسألتي تعارض الوصل والإرسال والرفع والوقف بأن الوصل في السند زيادة من الثقة فتقبل وليس الرفع زيادة في المتن فتكون علة وتقرير ذلك أن المتن إنما هو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا كان من قول صحابي فليس بمرفوع فصار منافيا له لأن دونه من قول الصحابي مناف لكونه من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأما الموصول والمرسل فكل منهما موافق للآخر في كونه من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -.

[ ص: 696 ] قال العلائي : "وهذه التفرقة قد تقوى في بعض الصور أكثر من بعض، فأما إذا كان الخلاف في الوقف والرفع على الصحابي بأن يرويه عنه تابعي مرفوعا ويوقفه عليه تابعي آخر لم يتجه هذا البحث لاحتمال أن يكون حين وقفه أفتى بذلك الحكم وحين رفعه رواه إلا أن يتبين أنهما مما سمعاه منه في مجلس واحد فيفزع حينئذ إلى الترجيح. - والله أعلم - .

التالي السابق


الخدمات العلمية