الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              وإذا بطلت هذه التقديرات - ولا بد من تقدير - فالتقدير بالقلتين أولى لثبوته، إما عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإما عن الصحابة.

                                                              قيل: هذا السؤال مبني على مقامات:

                                                              أحدها: أن النهي في هذه الأحاديث مستلزم لنجاسة الماء بالمنهي عنه.

                                                              والثاني: أن هذا التنجيس لا يعم كل ماء، بل يختص ببعض المقادير دون بعض.

                                                              والثالث: أنه إذا تعين التقدير، كان تقديره بالقلتين هو المتعين.

                                                              فأما المقام الأول فنقول: ليس في شيء من هذه الأحاديث أن الماء ينجس بمجرد ملاقاة البول والولوغ وغمس اليد فيه. أما النهي عن البول فيه، فليس فيه دلالة على أن الماء كله ينجس بمجرد ملاقاة البول لبعضه، بل قد يكون ذلك لأن البول سبب لتنجيسه، فإن الأبوال متى كثرت في المياه الدائمة أفسدتها، ولو كانت قلالا عظيمة. فلا يجوز أن يخص نهيه بما دون [ ص: 64 ] القلتين، فيجوز للناس أن يبولوا في القلتين فصاعدا، وحاشى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون نهيه خرج على ما دون القلتين، ويكون قد جوز للناس البول في كل ماء بلغ القلتين! أو زاد عليهما، وهل هذا إلا إلغاز في الخطاب؟ أن يقول: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ، ومراده من هذا اللفظ العام: أربعمائة رطل بالعراقي أو خمسمائة، مع ما يتضمنه التجويز من الفساد العام وإفساد موارد الناس ومياههم عليهم ؟

                                                              وكذلك حمله على ما لا يمكن نزحه، أو ما لا يتحرك أحد طرفيه بحركة طرفه الآخر، وكل هذا خلاف مدلول الحديث، وخلاف ما عليه الناس وأهل العلم قاطبة، فإنهم ينهون عن البول في هذه المياه، وإن كان مجرد البول لا ينجسها، سدا للذريعة. فإنه إذا مكن الناس من البول في هذه المياه وإن كانت كبيرة عظيمة لم تلبث أن تتغير وتفسد على الناس، كما رأينا من تغير الأنهار الجارية بكثرة الأبوال.

                                                              وهذا كما نهى عن إفساد ظلالهم عليهم بالتخلي فيها، وإفساد طرقاتهم بذلك. فالتعليل بهذا أقرب إلى ظاهر لفظه صلى الله عليه وسلم، ومقصوده، وحكمته بنهيه، ومراعاته مصالح العباد، وحمايتهم مما يفسد عليهم ما يحتاجون إليه من مواردهم وطرقاتهم وظلالهم، كما نهى عن إفساد ما يحتاج إليه الجن من طعامهم وعلف دوابهم.

                                                              فهذه علة معقولة تشهد لها العقول والفطر، ويدل عليها تصرف الشرع [ ص: 65 ] في موارده ومصادره، ويقبلها كل عقل سليم، ويشهد لها بالصحة.

                                                              وأما تعليل ذلك بمائة وثمانية أرطال بالدمشقي، أو بما يتحرك، أو لا يتحرك، أو بعشرين ذراعا مكسرة، أو بما لا يمكن نزحه فأقوال كل منها بكل معارض، وكل بكل مناقض، لا يشم منها رائحة الحكمة، ولا يشام منها بوارق المصلحة، ولا يتعطل بها المفسدة المخوفة.

                                                              فإن الرجل إذا علم أن النهي إنما تناول هذا المقدار من الماء لم يبق عنده وازع ولا زاجر عن البول فيما هو أكثر منه، وهذا يرجع على مقصود صاحب الشرع بالإبطال. وكل شرط أو علة أو ضابط رجع على مقصود الشارع بالإبطال كان هو الباطل المحال.

                                                              ومما يدل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في النهي وصفا يدل على أنه هو المعتبر في النهي، وهو كون الماء "دائما لا يجري"، ولم يقتصر على قوله: "الدائم" حتى نبه على العلة بقوله "لا يجري"، فتقف النجاسة فيه، فلا يذهب بها. ومعلوم أن هذه العلة موجودة في القلتين وفيما زاد عليهما.

                                                              والعجب من مناقضة المحددين بالقلتين لهذا المعنى، حيث اعتبروا القلتين حتى في الجاري، وقالوا: إن كانت الجرية قلتين فصاعدا لم تتأثر بالنجاسة، وإن كانت دون القلتين تأثرت، وألغوا كون الماء جاريا أو واقفا، [ ص: 66 ] وهو الوصف الذي اعتبره الشارع. واعتبروا في الجاري والواقف القلتين. والشارع لم يعتبره، بل اعتبر الوقوف والجريان.

                                                              فإن قيل: فإذا لم تخصصوا الحديث ولم تقيدوه بماء دون ماء، لزمكم المحال، وهو أن ينهى عن البول في البحر، لأنه دائم لا يجري.

                                                              قيل: ذكره صلى الله عليه وسلم الماء الدائم الذي لا يجري تنبيه على أن حكمة النهي إنما هي ما يخشى من إفساد مياه الناس عليهم، وأن النهي إنما تعلق بالمياه الدائمة التي من شأنها أن يفسدها الأبوال. فأما الأنهار العظام والبحار فلم يدل نهي النبي صلى الله عليه وسلم [عليها] بوجه، بل لما دل كلامه بمفهومه على جواز البول في الأنهار العظام كالنيل والفرات فجواز البول في البحار أولى وأحرى.

                                                              ولو قدر أن هذا تخصيص لعموم كلامه، فلا يستريب عاقل أنه أولى من تخصيصه بالقلتين، أو ما لا يمكن نزحه، أو ما لا تبلغ الحركة طرفيه; لأن المفسدة المنهي لأجلها لا تزول في هذه المياه، بخلاف ماء البحر، فإنه لا مفسدة في البول فيه. وصار هذا بمنزلة نهيه عن التخلي في الظل، وبوله صلى الله عليه وسلم في ظل الشجرتين، واستتاره بجذم الحائط، فإنه [ ص: 67 ] نهى عن التخلي في الظل النافع، وتخلى مستترا بالشجرتين والحائط، حيث لم ينتفع أحد بظلهما، فلم يفسد ذلك الظل على أحد.

                                                              وبهذا الطريق يعلم أنه إذا كان صلى الله عليه وسلم قد نهى عن البول في الماء الدائم، مع أنه قد يحتاج إليه، فلأن ينهى عن البول في إناء ثم صبه فيه بطريق الأولى.

                                                              ولا يستريب في هذا من علم حكمة الشريعة، وما اشتملت عليه من مصالح العباد ونصائحهم. ودع الظاهرية البحتة، فإنها تقسي القلوب، وتحجبها عن رؤية محاسن الشريعة وبهجتها، وما أودعته من الحكم والمصالح والعدل والرحمة.

                                                              وهذه الطريق التي جاءتك عفوا تنظر إليها نظر متكئ على أريكته قد تقطعت في مفاوزها أعناق المطي، لا يسلكها في العالم إلا الفرد بعد الفرد، ولا يعرف مقدارها إلا من أقرحت قلبه الأقوال المختلفة، والاحتمالات المتعددة، والتقديرات المستبعدة. فإن علت همته جعل مذهبه عرضة للأحاديث النبوية، وخدمته بها، وجعله أصلا محكما يرد إليه متشابهها، فما [ ص: 68 ] وافقه منها قبله، وما خالفه تكلف له وجوها لرد الجميل، فما أتعبه من شقاء، وما أقل فائدته!

                                                              ومما يفسد قول المحددين بقلتين: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البول في الماء الدائم ثم يغتسل البائل فيه بعد البول. هكذا لفظ الصحيحين: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه . وأنتم تجوزون أن يغتسل في ماء دائم قدر القلتين بعدما بال فيه. وهذا خلاف صريح للحديث. فإن منعتم الغسل فيه، نقضتم أصلكم، وإن جوزتموه خالفتم الحديث. فإن جوزتم البول والغسل خالفتم الحديث من الوجهين جميعا.

                                                              ولا يقال: فهذا بعينه وارد عليكم، لأنه إذا بال في الماء اليسير ولم يتغير جوزتم له الغسل فيه; لأنا لم نعلل النهي بالتنجيس، وإنما عللناه بإفضائه إلى التنجيس، كما تقدم، فلا يرد علينا هذا.

                                                              وأما إذا كان الماء كثيرا، فبال في ناحية ثم اغتسل في ناحية أخرى لم يصل إليها البول، لم يدخل في الحديث; لأنه لم يغتسل في الماء الذي بال فيه، وإلا لزم إذا بال في ناحية من البحر أن لا يغتسل فيه أبدا، وهو فاسد.

                                                              وأيضا فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغسل فيه بعد البول، لما يفضي إليه من إصابة البول له.

                                                              ونظير هذا: نهيه أن يبول الرجل في مستحمه. وذلك لما يفضي إليه من تطاير رشاش الماء الذي يصيب البول، فيقع في الوسواس، كما في [ ص: 69 ] الحديث: فإن عامة الوسواس منه . حتى لو كان المكان مبلطا لا تستقر فيه البولة، بل تذهب مع الماء لم يكره ذلك عند جمهور الفقهاء.

                                                              ونظير هذا: منع البائل أن يستجمر أو يستنجي موضع بوله، لما يفضي إليه من التلوث بالبول.

                                                              ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بنهيه الإخبار عن نجاسة الماء الدائم بالبول، فلا يجوز تعليل كلامه بعلة عامة تتناول ما لم ينه عنه.

                                                              والذي يدل على ذلك: أنه قيل له في بئر بضاعة: أنتوضأ منها وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب وعذر الناس ؟ فقال: الماء طهور لا ينجسه شيء .

                                                              فهذا نص صحيح صريح على أن الماء لا ينجس بملاقاة النجاسة، مع كونه واقفا، فإن بئر بضاعة كانت واقفة، ولم يكن على عهده بالمدينة ماء جار أصلا. فلا يجوز تحريم ما أباحه وفعله، قياسا على ما نهى عنه، ويعارض أحدهما بالآخر، بل يستعمل هذا وهذا; هذا في موضعه، وهذا في موضعه، ولا تضرب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضها ببعض.

                                                              فوضوءه من بئر بضاعة - وحالها ما ذكروه له - دليل على أن الماء لا يتنجس بوقوع النجاسة فيه، ما لم يتغير. ونهيه عن الغسل في الماء الدائم بعد [ ص: 70 ] البول فيه، لما ذكرنا من إفضائه إلى تلوثه بالبول، كما ذكرنا عنه التعليل بنظيره، فاستعملنا " السنن" على وجوهها.

                                                              وهذا أولى من حمل حديث بئر بضاعة على أنه كان أكثر من قلتين; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلل بذلك، ولا أشار إليه، ولا دل كلامه عليه بوجه.

                                                              وإنما علل بطهورية الماء، وهذه علة مطردة في كل ماء، قل أو كثر، ولا يرد المتغير; لأن ظهور النجاسة فيه يدل على تنجسه بها، فلا يدخل في الحديث، على أنه محل وفاق فلا يناقض به.

                                                              التالي السابق


                                                              الخدمات العلمية