الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 243 ]

                لنا : المكلف به مقدور ، والعدم غير مقدور فلا يكون مكلفا ، فهو إما كف النفس ، أو ضد المنهي ، وكلاهما فعل .

                التالي السابق


                " لنا " أي : على صحة ما قلناه أن : " المكلف به مقدور ، والعدم غير مقدور ، فلا يكون مكلفا " به .

                أما أن المكلف به مقدور للمكلف ، فلأنه سبب للثواب والعقاب ، وكل ما كان سبب الثواب والعقاب ، فهو مقدور للمكلف ، لقوله تعالى : ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون [ النحل : 32 ] ، لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون [ فصلت : 28 ] ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ النجم : 39 ] ، ونحوه كثير .

                وأما أن العدم غير مقدور للمكلف ، فلأنه نفي محض ، لا يصح أن يكون أثرا للقدرة ، ولا قابلا لأثرها ، وكل مقدور ، فهو قابل لتأثير القدرة ، فالعدم غير مقدور ، فلا يكون مكلفا به ، وإذا ثبت ذلك " فهو " - يعني متعلق التكليف في النهي - " إما كف النفس " عن المنهي ، أي : حبسها عنه بعنان التقوى " أو ضد المنهي عنه " ، وهو ما لا يمكن اجتماعه معه ، ولو تركه ، " وكلاهما " يعني كف النفس وضد المنهي عنه " فعل " .

                أما كون الكف فعلا ، فظاهر ، لأنه صرف النفس عما توجهت إليه من المعصية ، وقهرها على ذلك ، وزجرها عما همت به ، وهذه أفعال حقيقية . غير أن [ ص: 244 ] متعلق هذه الأفعال ، لما لم يكن مشاهدا - وهو النفس - خفي أمرها .

                فإن قيل : كيف يكف الإنسان نفسه بنفسه ؟ قلنا : هذا سؤال ، يتعلق جوابه بعلوم الباطن ، واستقصاؤه يخرج بنا عما نحن بصدده ، من تقرير أصول الشرع ، لكنا نشير إلى الجواب إشارة خفيفة ، فنقول :

                إن الإنسان عبارة عن هيكل محسوس ، اشتمل على جملة من المعاني ، منها : النفس الأمارة والهوى ، ومنها : العقل والإيمان والحياء ، فالمتوجه إلى مقارفة المعاصي ، هما المعنيان الأولان ، والزاجر عنها المفارق لها هما المعنيان الآخران ، وهما كجيشين في دار يقتتلان ويتضادان ، فالغالب من صحبه التوفيق ، والمغلوب من صحبه الخذلان .

                وأما كون ضد المنهي عنه فعلا ، فلأن المراد التلبس بضده ، كمن نهي عن الزنى ، فتشاغل بأكل أو شرب ، أو عن صوم يوم العيد ، فتلبس بالإفطار ، ولو لم يكن ضد الشيء إلا تركه ، لكان فعلا ، لأن ترك الشيء هو الإعراض عن فعله ، والإعراض فعل ، نعم ، تارة يكون بالبدن ، فيظهر للحس ، وتارة يكون بالقلب والنفس ، فيدرك عقلا لا حسا . وقد قال الشاعر الفصيح :


                إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكن إلى نحوه من آخر الدهر ترجع

                فوصف النفس بالانصراف ، والأصل في الإطلاق الحقيقة .




                الخدمات العلمية