الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 461 ] فما لم يخالف دليلا ، كاستباحة المباحات ، وسقوط صوم شوال ، لا يسمى رخصة ، وما خفف عنا من التغليظ على الأمم قبلنا ، بالنسبة إلينا رخصة مجازا ، وما خص به العام إن اختص بمعنى لا يوجد في بقية صوره ، كالأب المخصوص بالرجوع في الهبة فليس برخصة ، وإلا كان رخصة ، كالعرايا المخصوصة من بيع المزابنة . وإباحة التيمم رخصة ، إن كان مع القدرة على استعمال الماء لمرض ، أو زيادة ثمن ، وإلا فلا ، لعدم قيام السبب .

                التالي السابق


                قوله : " فما لم يخالف دليلا " ، إلى آخره . هذا كالامتحان لحد العزيمة والرخصة بالتفريع عليه ، فاستباحة المباحات من مأكول ومشروب وتنزه ونحوه ، وعدم صوم شوال ، لا يسمى رخصة ، لكونه لا يخالف دليلا ، وشرط الرخصة مخالفة الدليل .

                وقولنا هاهنا : وعدم وجوب صوم شوال : أجود من قولنا في " المختصر " : وسقوط صوم شوال ، لأن السقوط يستدعي سابقة وجوب ، وصوم شوال لم يجب أصلا حتى يكون عدم صومه لسقوطه .

                فأما ما خفف عنا - أيها الأمة الإسلامية - من التغليظ الذي كان على الأمم قبلنا ، كقطع محل النجاسة من الثوب والبدن ، وهتك العصاة بوجود معاصيهم مكتوبة على أبوابهم ، فيعاقبون عليها ، وهي الآصار والأغلال الموضوعة عنا ببركة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو بالنسبة إلينا رخصة على جهة المجاز ، بمعنى أنه سهل علينا ما شدد [ ص: 462 ] عليهم رفقا من الله سبحانه وتعالى بنا مع جواز إيجابه علينا كما أوجبه عليهم ، لا على معنى أننا استبحنا شيئا من المحرمات عليهم مع قيام المحرم في حقنا ، لأن المحرم لذلك إنما كان عليهم ، لأنهم المكلفون به لا نحن ، فهذا وجه التجوز .

                أما كون ذلك عزيمة في حقهم ، فهو حقيقة ، لأنه طلب منهم طلبا مؤكدا بدليل خال عن معارض . وهذا حقيقة العزيمة .

                قوله : " وما خص به العام " ، إلى آخره . أي : ما خص به العام من الأحكام ، فلا يخلو ، إما أن يختص ذلك المخصص للعام بمعنى لا يوجد في بقية صور العام ، أو لا يختص .

                فإن اختص بمعنى لا يوجد في بقية الصور ، فليس برخصة ، وذلك كالأب المخصوص بجواز الرجوع في الهبة لابنه من عموم قوله عليه السلام : ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه رواه البخاري ، وصححه الترمذي .

                فإن اختصاص الأب بجواز الرجوع في الهبة لمعنى خاص فيه ، وهو الأبوة ، دون سائر الواهبين ، فهو من باب تخصيص العموم لا من باب الرخص .

                وإن لم يختص ذلك المخصص بمعنى لا يوجد في بقية صوره ، كان رخصة ، كالعرايا المخصوصة من بيع المزابنة ، فإن المزابنة : بيع التمر بالرطب ، وقد نهي عنه نهيا عاما ، ثم خصت منه العرايا في خمسة أوسق فما دونهما للحاجة بشروط ذكرت في الفقه . وصرحت الرواة بلفظ الرخصة فيها ، حيث روى زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم : نهى عن المزابنة ، إلا أنه قد رخص في بيع العرايا بخرصها [ ص: 463 ] . رواه الترمذي ، وهو في " الصحيحين " وغيرهما .

                والفرق بين المخصصين فيما يظهر لي أن المعنى المخصص للأب من عموم منع الرجوع في الهبة دائم القيام به ، وهو الأبوة ، والمخصص لمحل الرخصة من عموم دليل العزيمة عارض غير لازم ، كالمخمصة في أكل الميتة ، والحاجة في العرايا .

                واعلم أن هذا الفرق لا يؤثر ، ولا يناسب اختلاف الحكم في الصورتين المذكورتين ، بل الأشبه أنهما يسميان رخصة : أعني رجوع الأب في الهبة ، وجواز العرايا ، ونحوها ، لوجهين :

                أحدهما : أن معنى الرخصة لغة وشرعا مشترك بينهما ، أما لغة . فلأن الرخصة من السهولة كما سبق ، وفي تجويز الرجوع للأب في الهبة تسهيل عليه . وأما شرعا : فلأن رجوعه على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح ، وهذا حد الرخصة ، فوجب أن يكون رخصة .

                الثاني : أن الرخصة تقابل العزيمة ، ولا شك أن تحريم الرجوع في الهبة على الأجانب عزيمة ، فوجب أن يكون جوازه للأب رخصة .

                قوله : " وإباحة التيمم رخصة " إلى آخره . أي : لا يخلو التيمم من أن يكون [ ص: 464 ] مع القدرة على استعمال الماء ، أو مع عدم القدرة عليه . فإن كان مع القدرة على استعماله لوجوده ، لكن جاز العدول عنه لمرض أو زيادة ثمن لا يوجب الشرع بذلها ، فإباحته رخصة لتحقق حد الرخصة ، وهو استباحة المحظور ، وهو الصلاة مع الحدث مع قيام السبب الحاظر ، وهو القدرة على الماء .

                وإن كان عدم القدرة على استعمال الماء لعدمه أو حائل دونه ، فليست إباحته رخصة ، لعدم قيام السبب المحرم ، وهو القدرة على الماء . وعلى هذا كلام يأتي بعد إن شاء الله تعالى .




                الخدمات العلمية