الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكذلك ما ذكره من أن العلم لا يلزم إلا في الفعل الإرادي، لا في الفعل الطبيعي الذي ليس بإرادي، فإذا قدر فعل ليس بإرادي، لم يلزم كون الفاعل عالما، هو كلام صحيح.

وعلى هذا فإذا قدر أن الفاعل عالم، لزم أن يكون الفعل إراديا؛ لأن الفعل الإرادي مستلزم للعلم، وغير الإرادي مستلزم لنفيه، وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم، وإذا ثبت الملزوم ثبت اللازم.

فالإرادة ملزومة للعلم، والعلم لازم لها، ونفي الإرادة ملزوم لنفي العلم، ونفي العلم ملزوم لنفي الإرادة.

فإذا قدر ثبوت العلم، لزم انتفاء نقيضه، وهو نفي العلم، ولازم نقيضه، وهو انتفاء الإرادة، وإذا انتفى هذا الانتفاء، ثبت نقيضه، وهو الإرادة.

وإيضاحه أن العلم لازم للإرادة، كما ذكروا أن كل مريد فهو عالم، فما ليس بعالم ليس بمريد، وهذا الذي يسمونه عكس النقيض، فإن العلم لازم للإرادة، فإذا انتفى هذا اللازم، وهو العلم، انتفى الملزوم، وهو الإرادة. [ ص: 145 ]

وذكروا أن الفعل الذي ليس بإرادي مستلزم لنفي العلم، فإذا انتفت الإرادة في الفعل، لزم نفي العلم، فإذا انتفى هذا اللازم، وهو نفي العلم، انتفى ملزومه وهو انتفاء الإرادة، فحصلت الإرادة، فصار يلزم من ثبوت العلم في الفعل ثبوت الإرادة، ومن نفيه نفيها، ومن ثبوتها ثبوته، ومن انتفائها انتفاؤه.

وهذا بين؛ إذ كان كل فعل بالإرادة فمعه العلم. وكل فعل ليس بإرادة فلا علم معه، فينعكس كل منهما عكس النقيض.

فيقال: كل ما ليس معه علم فليس معه إرادة، وكل ما معه علم فمعه إرادة، فهذا يفيد أنه يلزم في الفعل من ثبوت كل واحد من العلم والإرادة ثبوت الآخر، ومن انتفائه انتفاؤه، وهذا حق، وهو يدل على فساد قول من أثبت العلم ونفى الإرادة، وهم بعض الفلاسفة وبعض المعتزلة.

ولكن ليس في هذا ما يدل على فساد الطريق التي سلكها ابن سينا في إثبات العلم، فإنه إذا استدل على كونه عالما بمخلوقاته: بأن الفاعل يجب أن يكون عالما بفعله، وبأن العلم بالعلة التامة يستلزم العلم بمعلولها- كان دليلا صحيحا، كما تقدم تقريره، وإن لم يذكر في الدليل كونه فاعلا بالإرادة، فإن هذا شرط في كونه فاعلا، كما أن كونه حيا شرط في كونه فاعلا، وكما أن كونه عالما شرط في كونه مريدا.

والدليل قد يدل على ثبوت المشروط قبل أن يعلم شرطه، ثم بعد ذلك قد يعلم بشرطه وقد لا يعلم، كما يدل الدليل على كونه فاعلا بالاختيار، وشرط الفاعل بالاختيار أن يكون عالما. ثم إذا علم أنه فاعل [ ص: 146 ] بالإرادة علم بعد ذلك أنه عالم، وقد يعلم العالم أنه مريد ولا يخطر بقلبه أنه عالم، فليس كل من علم من البشر شيئا علم لوازمه، لقصور علم البشر، بخلاف علم الخالق الذي علمه تام، فلا يعلم الملزوم إلا ويعلم لازمه كما تقدم.

وإذا كان كذلك، فالصواب في هذا الباب أن يقرر ما ذكره ابن سينا، من الطريق الدال على كونه عالما بالمخلوقات، فإنها طريق صحيحة لا تتوقف على ما ذكروه.

ولكن يقال له: هذه الطريق تستلزم كونه مريدا، فإثباتك لفاعل عالم بمفعولاته بدون الإرادة تناقض. وموجب الدليل شيء، وفساد الدليل شيء آخر. فمطالبته بموجب دليله الصحيح هو الصواب، دون القدح في دليله الصحيح.

وأما ما ذكره عن إخوانه المنازعين له في العلم، حيث قالوا: ذاته ذات يلزم منها وجود الكل بالطبع والاضطرار، لا من حيث إنه عالم بها.

وقوله: فما المحيل لهذا المذهب، مهما وافقهم على نفي الإرادة؟

فيقال له: المحيل لهذا المذهب ما تقدم من أن علمه بنفسه يوجب علمه بمخلوقاته.

والكلام في هذا المقام بعد تقرير أنه عالم بنفسه. فمن قال: إنه عالم بنفسه دون مخلوقاته، كان قوله باطلا. وأما تقرير كونه عالما بنفسه، فهذا مذكور في موضعه. [ ص: 147 ]

وبهذا يظهر الجواب عن الفاعل بالطبع، كالنار والماء، فإن ذاك إنما قيل: ليس بعالم بفعله، لكونه ليس عالما بنفسه. ولم يقل عاقل: إن ذلك الفاعل عالم بنفسه دون فعله، كما لم يقل عاقل: إنه عالم بفعله دون نفسه؛ إذ كان العلم بكل منهما يستلزم العلم بالآخر.

التالي السابق


الخدمات العلمية