الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن أراد شخصا معينا، فلا يتعين حتى يحصل له تصور معين وإرادة معينة، لكن التعين يكون لأجل علمه المعين وقدرته المعينة، لا لكون إرادته الأولى دعته إلى أداء الزكاة وصرفها في الأنواع المذكورة في القرآن -فكانت إرادته لمعين.

وكذلك من قصده أن يتطهر كما أمره الله، فهو يقصد الطهارة بماء، أي ماء كان، وهذه إرادة كلية، ثم لا يمكنه أن يتطهر إلا بماء معين، يتصور تصورا معينا، ويريد التطهر به إرادة معينة.

وكذلك من قصده أن يعتق رقبة وجبت عليه في كفارة، وكذلك من غرضه أن يزوج وليته من كفو، ومن قصده أن يشتري طعاما من [ ص: 171 ] شخص، وكذلك من غرضه أن يستفتي من يفتيه بحكم الله، ومن غرضه أن يحاكم خصمه إلى من يحكم بينهما بالحق، وأمثال ذلك.

فهؤلاء قصدهم ابتدأ أمرا مطلقا كليا، ليس غرضهم شخصا بعينه، لكن لا يحصل مقصودهم إلا إذا قصدوا شيئا معينا، وإلا فما دامت ليس معهم إلا الإرادة المطلقة، لا يفعلون شيئا؛ إذ المطلق لا وجود له في الأعيان، فلا يمكن وجود كلي في الخارج مع كونه كليا قط، فمن لم يعلم إلا الكليات، لم يمكنه أن يفعل شيئا قط، ولا يكون عالما بشيء من الموجودات، فإن الموجودات في الخارج ليس فيها كلي.

فعلى قول هؤلاء لم يعلم الله شيئا من الموجودات، بل ولا فعل شيئا من الموجودات.

وهذا أمر قطعي لا حيلة فيه، كلما تدبره العاقل تبين له فساد هذا القول.

وما استثناه ابن سينا من كونه يعلم الموجودات الثابتة بأعيانها، لا يصح استثناؤها، فإن تلك أيضا حادثة على القول الحق، ويلحقها التغير كما يلحق غيرها، فيجب إذا لم يعلم إلا الكليات أن لا يعلمها، وعلى قول أولهم إنها أزلية أبدية، فهي مستلزمة للتغيرات، أما الأجسام فإنها لا تزال متحركة، وأما العقول فلا حقيقة لها، وبتقدير ثبوتها فإنها علل الأجسام المتغيرة عندهم.

وقد تقدم أصله: أن العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول، فالعلم بالعلل إنما يوجب العلم بمعلولها، والعلة أوجبت معلولات جزئية متغيرة، [ ص: 172 ] فيجب أن يعلم عليتها على هذا الوجه.

وحينئذ فيلزم أن يعلم المتغيرات متغيرة، لا يكون علمها على وجه كلي كما ذكروه.

ومما يوضح هذا أن الشرائع جاءت بالأحكام الكلية، مثل إيجاب الزكوات، وتحريم البنات والأخوات، ولا يمكن أمر أحد بما أمره الله به، ونهيه عما نهاه الله عنه، إن لم يعلم دخوله في تلك الأنواع الكلية، وإلا فمجرد العلم بها، لا يمكن معه فعل مأمور ولا ترك محظور، إلا بعلم معين، بأن هذا المأمور داخل فيما أمر الله به، وهذا المحظور داخل فيما نهى الله عنه. وهذا الذي يسمى تحقيق المناط.

التالي السابق


الخدمات العلمية