الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن الأقوال المشهورة عند الناس: من عرف نفسه عرف ربه، فلو كانت معرفته بنفسه هو نفسه، لكان كل أحد عارفا بنفسه وبربه. [ ص: 48 ]

ثم إن العاقل يتبين له كل وقت من أحوال نفسه، ما لم يكن متبينا له قبل ذلك، فيزداد عقلا ومعرفة وتبينا لنفسه. ويجد ذلك فيه وجودا ضروريا، كما يجد علومه الضرورية، فكيف يكون علمه بنفسه ليس فيه زيادة على مجرد نفسه، التي كانت قبل العلم بها؟

وقول القائل: العاقل لا يحتاج في إدراك ذاته إلى صورة غير صورة ذاته التي بها هو.

يقال له: من المعلوم بالضرورة أن إدراك ذاته ليس هو عين ذاته، بل إذا قدر ذاته بدون إدراكها، وقدر ذاته مع إدراكها، كان إدراكها قدرا زائدا على ذاته بدون إدراكها، وهذا الإدراك غير الذات الخلية عن إدراك، فهذا معلوم بالحس والضرورة.

ثم إن كان القائل ممن يقول: الإدراك هو انطباع صورة المعقول في العاقل، أو يقول: الإدراك هو نفس تلك الصورة، أو هو إدراك تلك الصورة، أو يقول: ليس هناك صورة، بل الإدراك علم بالمدرك بلا صورة، أو يقول: هو نسبة بين المدرك والمدرك بلا صورة، فأي قول في هذه الأقوال قاله، فلا بد له أن يجعل الإدراك ليس هو المدرك، فليس العلم هو نفس المعلوم، كما أنه [ ص: 49 ] ليس هو العالم، بل يعقل بالضرورة الفرق بين العالم والمعلوم والعلم، كما يعقل الفرق بين المريد والمراد والإرادة، والمرئي والرائي والرؤية، والمسموع والسامع والسمع، والمحبوب والمحب والمحبة.

لكن إن كان الواحد هو العالم والمعلوم، والمحب والمحبوب، بحيث يقال: إنه يعرف نفسه، ويحب نفسه، فهنا، مع كونها العالم والمعلوم، والمحب والمحبوب، فليس علمها بنفسها وحبها نفسها هو ذات نفسها، بل يمكن تقديرها غير عالمة بنفسها ولا محبة لنفسها، ويمكن تقديرها مع علمها وحبها.

ويعلم أنه مع تقديرها الوجود، هناك أمر موجود زائد على تقدير العدم، هذا مع أن جهة كونه عالما غير جهة كونه معلوما، وإن كانت الذات واحدة. وأما نفس العلم فليس هو لا ذات العالم ولا ذات المعلوم.

وقول القائل: الشيء لا يضاف إلى نفسه، كلام مجمل. فإن عنى به أنه لا يضاف في اللفظ، فهذا ليس بحثا عقليا، مع أنه ممنوع، فإنه قال: نفسه وذاته، وليس الكلام في هذه.

وإن أراد بذلك ما نحن فيه، وهو أن ذاته لا تتعلق بها الصفات الثبوتية الإضافية، كالعلم والحب والظلم، فلا يكون عالما بنفسه ولا محبا لها، ولا ظالما لها- فهذا مكابرة.

ثم لو قدر أن إدراكه لذاته ليس فيه صورة عقلية غير صورة ذاته التي بها هو، فلم قلت: إنه يلزم مثل ذلك في إدراك كل [ ص: 50 ] شيء؟ والذين فرقوا قالوا: ذاته لا تضاف إلى ذاته، وهذا الفرق منتف فيما سواهما.

قالوا: ليس بينه وبين ذاته واسطة أقرب من ذاته إلى ذاته، وهذا منتف فيما سوى ذاته.

وقالوا: العلم هو العالم وليس هو المعلوم، فعلمه بذاته هو نفس ذاته، بخلاف علمه بغيره.

وبالجملة فهم قد ذكروا فروقا، إن كانت صحيحة بطل الجمع، وإن كانت باطلة منع الحكم في الأصل.

أما كون الحكم في الأصل يوجد مسلما، مع قياس العلم بما سواه على العلم بنفسه، في أن كل عالم بمعلوم هو نفس المعلوم، وليس هناك علم زائد على المعلوم- فهذا مردود بصريح العقل، ومجرد تصوره التام كاف في العلم بفساده.

التالي السابق


الخدمات العلمية