الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2587 1 - حدثنا عبد الله بن يوسف ، قال : أخبرنا مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرة ، والحديث رواه عبد الله بن نمير ، وعبيدة بن سليمان ، عن عبيد الله بن عمر ، [ ص: 28 ] عن نافع ، كما رواه مالك ، ورواه يونس بن يزيد ، عن نافع أيضا كذلك ، وكذا رواه ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه ، ورواه مسلم من حديث عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : ( ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ) ، ورواه من حديث ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ثلاث ليال إلا ووصيته عنده مكتوبة ) .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه الترمذي من حديث أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله ما يوصي فيه إلا ووصيته عنده مكتوبة ) ، وأخرجه النسائي عن محمد بن سلمة ، عن أبي القاسم ، عن مالك به ، وأخرجه ابن ماجه من حديث عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر نحو رواية مسلم .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) : قوله : ( ما حق امرئ مسلم ) كلمة ما بمعنى ليس هكذا وقع في أكثر الروايات بلفظ مسلم، وليست هذه اللفظة في رواية أحمد ، عن إسحاق بن عيسى ، عن مالك ، والوصف بالمسلم هنا خرج مخرج الغالب ، فلا مفهوم له ، وذكر للتهييج لتقع المبادرة لامتثاله لما يشعر به من نفي الإسلام عن تارك ذلك ، وعن قريب نحرر ذلك . قوله : ( له شيء ) جملة وقعت صفة لامرئ . قوله : ( يوصي فيه ) جملة فعلية وقعت صفة لقوله شيء . قوله : ( يبيت ليلتين ) جملة فعلية وقعت صفة أخرى لامرئ ، وقال بعضهم : يبيت كأن فيه حذفا تقديره أن يبيت ، وهو كقوله : ومن آياته يريكم البرق انتهى . ( قلت ) : وهذا قياس فاسد ، وفيه تغيير المعنى أيضا ، وإنما قدر أن في قوله : يريكم ; لأنه في موضع الابتداء ; لأن قوله : ومن آياته في موضع الخبر ، والفعل لا يقع مبتدأ فيقدر أن فيه حتى يكون في معنى المصدر فيصح حينئذ وقوعه مبتدأ ، فمن له ذوق من العربية يفهم هذا ، ويعلم تغيير المعنى فيما قال ، قوله : ( إلا ووصيته ) مستثنى ، وهو خبر ليس ، والواو فيه للحال ، وقال صاحب ( المظهر ) قيد ليلتين تأكيد ، وليس بتحديد ، يعني : لا ينبغي له أن يمضي عليه زمان ، وإن كان قليلا إلا ووصيته مكتوبة ، وقال الطيبي : في تخصيص ليلتين تسامح في إرادة المبالغة ، أي : لا ينبغي أن يبيت ليلة ، وقد سامحناه في هذا المقدار ، فلا ينبغي أن يتجاوز عنه ، وقال النووي في ( شرح مسلم ) ، وفي رواية ثلاث ليال ، ( قلت ) : هو رواية مسلم ، والنسائي من طريق الزهري عن سالم ، عن أبيه يبيت ثلاث ليال ، والحاصل أن ذكر الليلتين ، أو الثلاث لرفع الحرج لتزاحم أشغال المرء التي يحتاج إلى ذكرها ، ففسح له هذا المقدار ليتذكر ما يحتاج إليه ، واعلم أن لفظ مالك في هذا الحديث لم تختلف الرواة فيه عنه ، وفي رواية أحمد ، عن سفيان ، عن أيوب بلفظ : ( حق على كل مسلم أن لا يبيت ليلتين وله ما يوصي فيه ) الحديث ، ورواه الشافعي رحمه الله ، عن سفيان بلفظ : ( ما حق امرئ يؤمن بالوصية ) الحديث ، قال ابن عبد البر : فسره ابن عيينة ، أي : يؤمن بأنها حق ، وأخرجه أبو عوانة من طريق هشام بن الغاز ، عن نافع بلفظ : ( لا ينبغي لمسلم أن يبيت ليلتين ) الحديث ، وأخرجه الإسماعيلي من طريق روح بن عبادة ، عن مالك ، وابن عون ، جميعا عن نافع بلفظ : ( ما حق امرئ مسلم له مال يريد أن يوصي فيه ) ، وذكره ابن عبد البر من طريق ابن عوف بلفظ : ( لا يحل لامرئ مسلم له مال ) ، وأخرجه الطحاوي أيضا ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه ) : فيه حث على الوصية ، واحتجت به الظاهرية أنها واجبة ، وقال الزهري : جعل الله الوصية حقا مما قل ، أو كثر ، قيل لأبي مجلز : على كل مثر وصية ، قال : كل من ترك خيرا ، وقال ابن حزم : وروينا من طريق عبد الرزاق ، عن الحسن بن عبد الله ، قال : كان طلحة بن عبيد الله ، والزبير يشددان في الوصية ، وهو قول عبد الله بن أبي أوفى ، وطلحة بن مصرف ، والشعبي ، وطاوس ، وغيرهم ، قال : وهو قول أبي سليمان ، وجميع أصحابنا ، وقالت طائفة : ليست الوصية بواجبة كان الموصي موسرا ، أو فقيرا ، وهو قول النخعي ، والشعبي ، والثوري ، ومالك ، والشافعي ، وقال ابن العربي : أما السلف الأول : فلا نعلم أحدا قال بوجوبها ، وقال النخعي ، والشعبي : الوصية للوالدين ، والأقربين على الندب ، وقال الضحاك ، وطاوس : الوصية للوالدين ، والأقربين واجبة بنص القرآن إذا كانوا لا يرثون ، وقال طاوس : من أوصى لأجانب وله أقرباء انتزعت الوصية فردت للأقرباء ، وقال الضحاك : من مات وله شيء ، ولم يوص لأقربائه ، فقد مات عن معصية لله عز وجل ، وقال الحسن ، وجابر بن زيد ، وعبد الملك بن يعلى فيما ذكره الطبري : إذا أوصى رجل لقوم غرباء بثلثه ، وله أقرباء أعطي الغرباء ثلث المال . [ ص: 29 ] ورد الباقي على الأقرباء ، وقال الطبري : وحكي عن طاوس أن جميع ذلك ينتزع من الموصى لهم ، ويدفع لقرابته ; لأن آية البقرة عندهم محكمة ، وقال أصحابنا الحنفية : الوصية مستحبة ; لأنها إثبات حق في ماله ، فلم تكن واجبة كالهبة ، والعارية ، وليس الاستدلال على وجوب الوصية بحديث الباب بصحيح ; لأن ابن عمر راوي الحديث لم يوص ، ومحال أن يخالف ما رواه لو كان واجبا ، ورد ذلك بأنه إن ثبت ، فالعبرة لما روى لا بما رأى ، وأجيب عنه بأن في ذلك نسبته إلى مخالفة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وحاشاه من ذلك ، فإذا روي عنه أنه لم يوص على أن الحديث لم يدل على الوجوب لمانع عن ذلك ظهر عنده ; لأن أمور المسلمين محمولة على الصلاح ، والسداد ، ولا سيما مثل هذا الصحابي الجليل المقدار ، ( فإن قلت ) : ثبت في ( صحيح مسلم ) أنه قال : ( لم أبت ليلة إلا ووصيتي مكتوبة عندي ) ، ( قلت ) : يعارضه ما أخرجه ابن المنذر ، وغيره عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن نافع ، قال : قيل لابن عمر في مرض موته : ألا توصي ، قال : أما مالي ، فالله يعلم ما كنت أصنع فيه ، وأما رباعي ، فلا أحب أن يشارك ولدي فيها أحد ، فإذا جمعنا بينهما بالحمل على أنه كان يكتب وصيته ، ويتعاهدها ، ثم صار ينجز ما كان يوصي به معلقا ، وإليه الإشارة بقوله : الله يعلم ما كنت أصنع في مالي ، ولعل الحامل له على ذلك حديث : ( إذا أمسيت ، فلا تنتظر الصباح ) الحديث سيأتي في الرقاق ، فصار ينجز ما يريد التصدق به ، فلم يحتج إلى تعليق ، ونقل ابن المنذر عن أبي ثور أن المراد بوجوب الوصية في الآية ، والحديث يختص بمن عليه حق شرعي يخشى أن يضيع على صاحبه إن لم يوص به ، كوديعة ودين لله ، أو لآدمي ، قال : ويدل على ذلك تقييده بقوله : له شيء يريد أن يوصي فيه ; لأن فيه إشارة إلى قدرته على تنجيزه ، ولو كان مؤجلا ، فإنه إذا أراد ذلك ساغ له ، وإن أراد أن يوصي به ساغ له ، وفيه جواز الاعتماد على الكتابة ، والخط ، ولو لم تقترن ذلك بالشهادة ، وبه قال أحمد ، ومحمد بن نصر من الشافعية ، وقال الشافعي : معنى هذا الحديث ما الحزم ، والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده فيستحب تعجيلها ، وأن يكتبها في صحته ، ويشهد على ما فيها ، ويكتب فيها ما يحتاج إليه ، فإن تجدد أمر يحتاج إلى الوصية به ألحقه بها ، وقال النووي : قالوا : لا يكلف أن يكتب كل يوم محقرات المعاملات وجريان الأمور المتكررة ، ولا يقتصر على الكتابة ، بل لا يعمل بها ، ولا ينتفع إلا إذا كان أشهد عليه بها ، هذا مذهبنا ، ومذهب الجمهور ، ( فإن قلت ) : من أين اشتراط الإشهاد وإضمار الإشهاد فيه بعد ، ( قلت ) : استدل على اشتراط الإشهاد بأمر خارج لقوله تعالى شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية فإنه يدل على اشتراط الإشهاد في الوصية ، وقال القرطبي : الكتابة مبالغة في زيادة التوثيق ، وإلا فالوصية المشهود بها متفق عليها ، ولو لم تكن مكتوبة ، وفيه الندب إلى التأهب للموت ، والاحتراز قبل الفوت ; لأن الإنسان لا يدري متى يفجأه الموت ، وفيه يستدل بقوله : له شيء ، أو له مال على صحة الوصية بالمنافع ، وهو قول الجمهور ، ومنعه ابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، وداود الظاهري ، وأتباعه ، واختاره ابن عبد البر ، والله أعلم .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية