الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : اعلم أن ضرب الأمثال من الأمور المستحسنة في العقول ويدل عليه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : إطباق العرب والعجم على ذلك ، أما العرب فذلك مشهور عندهم وقد تمثلوا بأحقر الأشياء ، فقالوا في التمثيل بالذرة : أجمع من ذرة ، وأضبط من ذرة ، وأخفى من الذرة ، وفي التمثيل بالذباب : أجرأ من الذباب ، وأخطأ من الذباب ، وأطيش من الذباب ، وأشبه من الذباب بالذباب ، وألح من الذباب . وفي التمثيل بالقراد : أسمع من قراد ، وأصغر من قراد . وأعلق من قراد . وأغم من قراد ، وأدب من قراد ، وقالوا في الجراد : أطير من جرادة ، وأحطم من جرادة ، وأفسد من جرادة . وأصفى من لعاب الجراد . وفي الفراشة : أضعف من فراشة ، وأطيش من فراشة ، وأجهل من فراشة ، وفي البعوضة : أضعف من بعوضة ، وأعز من مخ البعوضة ، وكلفني مخ البعوضة ، في مثل تكليف ما لا يطاق . وأما العجم فيدل عليه " كتاب كليلة ودمنة " وأمثاله ، وفي بعضها : قالت البعوضة ، وقد وقعت على نخلة عالية وأرادت أن تطير عنها : يا هذه استمسكي فإني أريد أن أطير ، فقالت النخلة : والله ما شعرت بوقوعك فكيف أشعر بطيرانك .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه ضرب الأمثال في إنجيل عيسى - عليه السلام - بالأشياء المستحقرة ، قال : مثل ملكوت السماء كمثل رجل زرع في قريته حنطة جيدة نقية ، فلما نام الناس جاء عدوه فزرع الزوان بين الحنطة ، فلما نبت الزرع وأثمر العشب غلب عليه الزوان ، فقال عبيد الزارع : يا سيدنا أليس حنطة جيدة نقية زرعت في قريتك ؟ قال : بلى ، قالوا : فمن أين هذا الزوان ؟ قال : لعلكم إن ذهبتم أن تقلعوا الزوان فتقلعوا معه الحنطة ، فدعوهما يتربيان جميعا حتى الحصاد . فأمر الحصادين أن يلتقطوا الزوان من الحنطة وأن يربطوه حزما ثم يحرقوه بالنار ويجمعوا الحنطة إلى الخزائن .

                                                                                                                                                                                                                                            وأفسر لكم : ذلك الرجل الذي زرع الحنطة الجيدة هو أبو البشر ، والقرية هي العالم ، والحنطة الجيدة النقية هو نحن أبناء الملكوت الذين يعملون بطاعة الله تعالى ، والعدو الذي زرع الزوان هو إبليس ، والزوان هو المعاصي التي يزرعها إبليس وأصحابه ، والحصادون هم الملائكة يتركون الناس حتى تدنو آجالهم فيحصدون أهل الخير إلى ملكوت الله ، وأهل الشر إلى الهاوية وكما أن الزوان يلتقط ويحرق بالنار كذلك رسل الله وملائكته يلتقطون من ملكوته المتكاسلين وجميع عمال الإثم فيلقونهم في أتون الهاوية فيكون هنالك البكاء وصريف الأسنان ، ويكون الأبرار هنالك في ملكوت [ ص: 124 ] ربهم ، من كانت له أذن تسمع فليسمع .

                                                                                                                                                                                                                                            وأضرب لكم مثلا آخر يشبه ملكوت السماء : لو أن رجلا أخذ حبة من خردل وهي أصغر الحبوب وزرعها في قريته ، فلما نبتت عظمت حتى صارت كأعظم شجرة من البقول ، وجاء طير من السماء فعشش في فروعها ، فكذلك الهدى ؛ من دعا إليه ضاعف الله أجره وعظمه ورفع ذكره ، ونجى من اقتدى به .

                                                                                                                                                                                                                                            وقال : لا تكونوا كمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة ، وكذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم . وقال : قلوبكم كالحصاة التي لا تنضجها النار ولا يلينها الماء ولا تنسفها الرياح ، وقال لا تدخروا ذخائركم حيث السوس والأرضة فتفسدها ، ولا في البرية حيث السموم واللصوص فتحرقها السموم وتسرقها اللصوص ، ولكن ادخروا ذخائركم عند الله .

                                                                                                                                                                                                                                            وقال : نحفر فنجد دواب عليها لباسها وهناك رزقها وهن لا يزرعن ولا يحصدن ، ومنهن من هو في جوف الحجر الأصم أو في جوف العود ، من يأتيهن بلباسهن وأرزاقهن إلا الله ؟ أفلا تعقلون ؟ وقال : لا تثيروا الزنابير فتلدغكم ولا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم .

                                                                                                                                                                                                                                            فظهر أن الله تعالى ضرب الأمثال بهذه الأشياء الحقيرة ، وأما العقل فلأن من طبع الخيال المحاكاة والتشبه ، فإذا ذكر المعنى وحده أدركه العقل ولكن مع منازعة الخيال ، وإذا ذكر معه الشبه أدركه العقل مع معاونة الخيال ، ولا شك أن الثاني يكون أكمل ، وأيضا فنحن نرى أن الإنسان يذكر معنى ولا يلوح له كما ينبغي ، فإذا ذكر المثال اتضح وصار مبينا مكشوفا ، وإن كان التمثيل يفيد زيادة البيان والوضوح وجب ذكره في الكتاب الذي لا يراد منه إلا الإيضاح والبيان .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قولهم : ضرب الأمثال بهذه الأشياء الحقيرة لا يليق بالله تعالى ، قلنا : هذا جهل ؛ لأنه تعالى هو الذي خلق الصغير والكبير وحكمه في كل ما خلق وبرأ عام ؛ لأنه قد أحكم جميعه ، وليس الصغير أخف عليه من الكبير والعظيم أصعب من الصغير ، وإذا كان الكل بمنزلة واحدة لم يكن الكبير أولى أن يضربه مثلا لعباده من الصغير ، بل المعتبر فيه ما يليق بالقصة ، فإذا كان الأليق بها الذباب والعنكبوت يضرب المثل بهما لا بالفيل والجمل ، فإذا أراد تعالى أن يقبح عبادتهم الأصنام وعدولهم عن عبادة الرحمن صلح أن يضرب المثل بالذباب ليبين أن قدر مصرتها لا يندفع بهذه الأصنام ، ويضرب المثل ببيت العنكبوت ليبين أن عبادتها أوهن وأضعف من ذلك ، وفي مثل ذلك كلما كان المضروب به المثل أضعف كان المثل أقوى وأوضح .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قال الأصم : " ما " في قوله : (مثلا ما) صلة زائدة ، كقوله : ( فبما رحمة من الله ) [ آل عمران : 159 ] ، وقال أبو مسلم : معاذ الله أن يكون في القرآن زيادة ولغو ، والأصح قول أبي مسلم ؛ لأن الله تعالى وصف القرآن بكونه هدى وبيانا ، وكونه لغوا ينافي ذلك . وفي (بعوضة) قراءتان ، إحداهما : النصب ، وفي لفظة (ما) على هذه القراءة وجهان ، الأول : أنها مبنية وهي التي إذا قرنت باسم نكرة أبهمته إبهاما وزادته شيوعا وبعدا عن الخصوصية .

                                                                                                                                                                                                                                            بيانه أن الرجل إذا قال لصاحبه : أعطني كتابا أنظر فيه ، فأعطاه بعض الكتب ، صح له أن يقول : أردت كتابا آخر ولم أرد هذا ، ولو قاله مع (ما) لم يصح له ذلك ؛ لأن تقدير الكلام : أعطني كتابا ، أي كتاب كان .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنها نكرة قام تفسيرها باسم الجنس مقام الصفة ، أما على قراءة الرفع ففيها وجهان : الأول : أنها موصولة صلتها الجملة ؛ لأن التقدير هو بعوضة ، فحذف المبتدأ كما حذف في ( تماما على الذي أحسن ) [ الأنعام : 154 ] . الثاني : أن تكون استفهامية ؛ فإنه لما قال : ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ) كأنه قال بعده : ما بعوضة فما فوقها ، حتى يضرب المثل به ، بل له أن يمثل بما هو أقل من ذلك كثيرا ، كما يقال : فلان لا يبالي بما وهب ، ما دينار وديناران ، أي يهب ما هو أكثر من ذلك بكثير .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية