الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                              [ ص: 133 ] الوجه السابع: وهو أن المقدم على مواقعة المحظور إنما أوجب إقدامه عليه ما فيه من اللذة الحاصلة له به، فظن أنه يحصل له لذته العاجلة، ورجا أن يتخلص من تبعته بسبب من الأسباب ولو بالعفو المجرد فينال به لذة ولا يلحقه به مضرة، وهذا من أعظم الجهل، والأمر تحس باطنه، فإن الذنوب تتبعها ولابد من الهموم والآلام وضيق الصدر والنكد، وظلمة القلب، وقسوته أضعاف أضعاف ما فيها من اللذة، ويفوت بها من حلاوة الطاعات، وأنوار الإيمان، وسرور القلب ببهجة الحقائق والمعارف، ما لا يوازي الذرة منه جميع لذات الدنيا، فيحصل لصاحب المعصية العيشة الضنك، وتفوته الحياة الطيبة، فينعكس قصده بارتكاب المعصية، فإن الله ضمن لأهل الطاعة الحياة الطيبة، ولأهل المعصية العيشة الضنك، قال تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا وقال: وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون وقال: ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون وقال في أهل الطاعة: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة

                                                                                                                                                                                              قال الحسن وغيره من السلف: "لنرزقنه عبادة يجد حلاوتها في قلبه" . ومن فسرها بالقناعة، فهو صحيح أيضا، ومن أنواع الحياة الطيبة الرضى بالمعيشة فإن الرضى، كما قال عبد الواحد بن زيد: "جنة الدنيا ومستراح العابدين"، وقال تعالى: وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله

                                                                                                                                                                                              [ ص: 134 ] وقال: فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين

                                                                                                                                                                                              كما قال عن إبراهيم عليه السلام: وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ومثل هذا كثير في القرآن، فما في الطاعة من اللذة والسرور والابتهاج والطمأنينة وقرة العين؛ أمر ثابت بالنصوص المستفيضة وهو مشهود محسوس يدركه بالذوق والوجد من حصل له ولا يمكن التعبير بالكلام عن حقيقته، والآثار عن السلف والمشايخ العارفين في هذا الباب كثيرة موجودة حتى كان بعض السلف يقول: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف " .

                                                                                                                                                                                              وقال آخر: "لو علموا ما نحن فيه لقتلونا ودخلوا فيه" .

                                                                                                                                                                                              وقال أبو سليمان : "أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا" .

                                                                                                                                                                                              وقال: "إنه ليمر على القلب أوقات يضحك فيها ضحكا" .

                                                                                                                                                                                              وقال ابن المبارك وغيره: "مساكين أهل الدنيا خرجوا منها ولم يذوقوا أطيب ما فيها، قيل: ما أطيب ما فيها؟ قال: معرفة الله" .

                                                                                                                                                                                              وقال آخر: "أوجدني الله قلبا طيبا حتى قلت: إن كان أهل الجنة في مثل هذا فإنهم في عيش طيب" .

                                                                                                                                                                                              وقال مالك بن دينار : "ما تنعم المتنعمون بمثل ذكر الله" .

                                                                                                                                                                                              وهذا باب واسع جدا، والمعاصي تقطع هذه المواد، وتغلق أبواب هذه الجنة المعجلة، وتفتح أبواب الجحيم العاجلة من الهم والغم، والضيق والحزن [ ص: 135 ] والتكدر وقسوة القلب وظلمته وبعده عن الرب - عز وجل - وعن مواهبه السنية الخاصة بأهل التقوى .

                                                                                                                                                                                              كما ذكر ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي - رضي الله عنه - قال: "جزاء المعصية الوهن في العبادة، والضيق في المعيشة، والتعس في اللذة، قيل: وما التعس في اللذة؟ قال: لا ينال شهوة حلالا، إلا جاءه ما يبغضه إياها" .

                                                                                                                                                                                              وعن الحسن قال: "العمل بالحسنة نور في القلب وقوة في البدن، والعمل بالسيئة ظلمة في القلب ووهن في البدن" .

                                                                                                                                                                                              وروى ابن المنادي وغيره عن الحسن، قال: "إن للحسنة ثوابا في الدنيا وثوابا في الآخرة، وإن للسيئة ثوابا في الدنيا، وثوابا في الآخرة، فثواب الحسنة في الدنيا البصر في الدين، والنور في القلب، والقوة في البدن مع صحبة حسنة جميلة، وثوابها في الآخرة رضوان الله عز وجل، وثواب السيئة في الدنيا العمى في الدنيا، والظلمة في القلب، والوهن في البدن مع عقوبات ونقمات، وثوابها في الآخرة سخط الله عز وجل والنار" .

                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن مالك بن دينار، قال: "إن لله عقوبات فتعاهدوهن من أنفسكم في القلوب والأبدان: ضنك في المعيشة، ووهن في العبادة، وسخط في الرزق" .

                                                                                                                                                                                              وعنه أنه قال: "ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب" .

                                                                                                                                                                                              ومثل هذا كثير جدا، وحاصل الأمر ما قاله قتادة وغيره من السلف: "إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليه، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلا به، بل أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم، وهذا هو الذي [ ص: 136 ] عليه المحققون من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم، كالقاضي أبي يعلى وغيره، وإن كان بينهم في جواز وقوع خلاف ذلك عقلا نزاع مبني على أن العقل هل له مدخل في التحسين والتقبيح أم لا؟

                                                                                                                                                                                              وكثير منهم كأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب على أن ذلك لا يجوز عقلا أيضا وأما من قال بوقوع مثل ذلك شرعا فقوله شاذ مردود .

                                                                                                                                                                                              والصواب: أن ما أمر الله به عباده فهو عين صلاحهم وفلاحهم في دنياهم وآخرتهم، فإن نفس الإيمان بالله ومعرفته وتوحيده وعبادته ومحبته وإجلاله وخشيته وذكره وشكره; هو غذاء القلوب وقوتها وصلاحها وقوامها، فلا صلاح للنفوس، ولا قرة للعيون ولا طمأنينة، ولا نعيم للأرواح ولا لذة لها في الدنيا على الحقيقة، إلا بذلك، فحاجتها إلى ذلك أعظم من حاجة الأبدان إلى الطعام والشراب والنفس، بكثير، فإن حقيقة العبد وخاصيته هي قلبه وروحه ولا صلاح له إلا بتألهه لإلهه الحق الذي لا إله إلا هو، ومتى فقد ذلك هلك وفسد، ولم يصلحه بعد ذلك شيء البتة، وكذلك ما حرمه الله على عباده وهو عين فسادهم وضررهم في دينهم ودنياهم، ولهذا حرم عليهم ما يصدهم عن ذكره وعبادته كما حرم الخمر والميسر، وبين أنه يصد عن ذكره وعن الصلاة مع مفاسد أخر ذكرها فيهما، وكذلك سائر ما حرمه الله فإن فيه مضرة لعباده في دينهم ودنياهم وآخرتهم، كما ذكر ذلك السلف، وإذا تبين هذا وعلم أن صلاح العباد ومنافعهم ولذاتهم في امتثال ما أمرهم الله به، واجتناب ما نهاهم الله عنه تبين أن من طلب حصول اللذة والراحة من فعل المحظور أو ترك المأمور، فهو في غاية الجهل والحمق، وتبين أن كل من عصى الله هو جاهل، كما قاله السلف ودل عليه القرآن كما [ ص: 137 ] تقدم، ولهذا قال: كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون وقال: ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما

                                                                                                                                                                                              وقال تعالى: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون فأخبر أنهم علموا أن من اشتراه أي تعوض به في الدنيا فلا خلاق له في الآخرة ثم قال: ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون فيدل هذا على أنهم لم يعلموا سوء ما شروا به أنفسهم، وقد اختلف المفسرون في الجمع بين إثبات العلم ونفيه هاهنا، فقالت طائفة منهم: الذين علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق، هم الشياطين الذين يعلمون الناس السحر، والذين قيل فيهم: لو كانوا يعلمون هم الناس الذين يتعلمون . قال ابن جرير: وهذا القول خطأ مخالف لإجماع أهل التأويل على أن قوله: ولقد علموا عائد على اليهود الذين اتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان - ثم أخبر ابن جرير أن الذين علموا أنه لا خلاق لمن اشتراه هم اليهود، والذين قيل فيهم: لو كانوا يعلمون، هم الذين يتعلمون من الملكين، وكثيرا ما يكون فيهم الجهال بأمر الله ووعده ووعيده، وهذا أيضا ضعيف فإن [ ص: 138 ] الضمير فيهما عائد إلى واحد، وأيضا فإن الملكين يقولان لمن يعلمانه: إنما نحن فتنة فلا تكفر، فقد أعلماه تحريمه وسوء عاقبته .

                                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: إنما نفى عنهم العلم بعدما أثبته لانتفاء ثمرته وفائدته، وهو العمل بموجبه ومقتضاه، فلما انتفى عنهم العمل بعلمهم جعلهم جهالا لا يعلمون، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، وهذا حكاه ابن جرير وغيره، وحكى الماوردي قولا بمعناه، لكنه جعل العمل مضمرا، وتقديره لو كانوا يعملون بما يعلمون .

                                                                                                                                                                                              وقيل: إنهم علموا أن من اشتراه فلا خلاق له، أي لا نصيب له في الآخرة من الثواب، لكنهم لم يعلموا أنه يستحق عليه العقاب مع حرمانه الثواب، وهذا حكاه الماوردي وغيره، وهو ضعيف أيضا، فإن الضمير إن عاد إلى اليهود، فاليهود لا يخفى عليهم تحريم السحر واستحقاق صاحبه العقوبة، وإن عاد إلى الذين يتعلمون من الملكين فالملكان يقولان لهم: إنما نحن فتنة فلا تكفر والكفر لا يخفى على أحد أن صاحبه يستحق العقوبة، وإن عاد إليهما، وهو الظاهر، فواضح، وأيضا فإذا علموا أن من اشتراه ما له في الآخرة من خلاق فقد علموا أنه يستحق العقوبة، لأن الخلاق: النصيب من الخير، فإذا علم أنه ليس له نصيب في الخير بالكلية فقد علم أن له نصيبا من الشر، لأن أهل التكليف في الآخرة لا يخلو واحد منهم عن أن يحصل له خير أو شر لا يمكن انتكاله عنهما جميعا البتة .

                                                                                                                                                                                              وقالت طائفة: علموا أن من اشتراه فلا خلاق له في الآخرة، لكنهم ظنوا أنهم ينتفعون به في الدنيا، ولهذا اختاروه وتعوضوا به عن بوار الآخرة وشروا به أنفسهم، وجهلوا أنه في الدنيا يضرهم أيضا ولا ينفعهم، فبئس ما [ ص: 139 ] شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ذلك، وأنهم إنما باعوا أنفسهم وحظهم من الآخرة بما يضرهم في الدنيا أيضا ولا ينفعهم، وهذا القول حكاه الماوردي وغيره، وهو الصحيح، فإن الله تعالى قال: ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم أي هو في نفس الأمر يضرهم ولا ينفعهم بحال في الدنيا وفي الآخرة، ولكنهم لم يعلموا ذلك لأنهم لم يقدموا عليه إلا لظنهم أنه ينفعهم في الدنيا .

                                                                                                                                                                                              ثم قال: ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق أي قد تيقنوا أن صاحب السحر لا حظ له في الآخرة، وإنما يختاره لما يرجو من نفعه في الدنيا، وقد يسمون ذلك العقل المعيشي أي العقل الذي يعيش به الإنسان في الدنيا عيشة طيبة، قال الله تعالى: ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون أي: إن هذا الذي يعوضوا به عن ثواب الآخرة في الدنيا أمر مذموم مضر لا ينفع لو كانوا يعلمون ذلك ثم قال: ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون يعني: أنهم لو اختاروا الإيمان والتقوى بدل السحر لكان الله يثيبهم على ذلك ما هو خير لهم مما طلبوه في الدنيا لو كانوا يعلمون، فيحصل لهم في الدنيا من ثواب الإيمان والتقوى من الخير الذي هو جلب المنفعة ودفع المضرة ما هو أعظم مما يحصلونه بالسحر من خير الدنيا مع ما يدخر لهم من الثواب في الآخرة .

                                                                                                                                                                                              والمقصود هنا: أن كل من آثر معصية الله على طاعته ظانا أنه ينتفع بإيثار المعصية في الدنيا، فهو من جنس من آثر السحر - الذي ظن أنه ينفعه في الدنيا - على التقوى والإيمان، ولو اتقى وآمن لكان خيرا له وأرجى لحصول مقاصده ومطالبه ودفع مضاره ومكروهاته، ويشهد كذلك أيضا ما في "مسند [ ص: 140 ] البزار" عن حذيفة قال: "قام النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعا الناس فقال: هلموا إلي، فأقبلوا إليه فجلسوا، فقال: "هذا رسول رب العالمين جبريل - عليه السلام . - نفث في روعي: أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها وإن أبطأ عليها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تأخذوه بمعصية الله، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته" .

                                                                                                                                                                                              إذا تبين هذا; فقد علم أن العلم مستلزم للخشية من هذه الوجوه كلها، لكن على الوجه الأول يستلزم الخشية العلم بالله وجلاله وعظمته، وهو الذي فسر الآية به جماعة من السلف، كما تقدم، وعلى الوجوه الأخر تكون الخشية ملازمة للعلم بأوامر الله ونواهيه وأحكامه وشرائعه وأسرار دينه وشرعه وخلقه وقدره، ولا تنافي بين هذا العلم والعلم بالله; فإنهما قد يجتمعان وقد ينفرد أحدهما عن الآخر، وأكمل الأحوال اجتماعهما جميعا وهي حالة الأنبياء - عليهم السلام - وخواص الصديقين ومتى اجتمعا كانت الخشية حاصلة من تلك الوجوه كلها، وإن انفرد أحدهما حصل من الخشية بحسب ما حصل من ذلك العلم، والعلماء الكمل أولو العلم في الحقيقة الذين جمعوا الأمرين .

                                                                                                                                                                                              وقد ذكر الحافظ أبو أحمد بن عدي: ثنا أحمد بن عبد الله بن صالح بن شيخ بن عميرة: ثنا إسحاق بن بهلول قال: قال لي إسحاق بن الطباع: قال لي سفيان بن عيينة: "عالم بالله عالم بالعلم، عالم بالله ليس بعالم بالعلم، عالم بالعلم ليس بعالم بالله "، قال: قلت لإسحاق: فهمنيه واشرحه لي، [ ص: 141 ] قال: عالم بالله عالم بالعلم، حماد بن سلمة، عالم بالله ليس بعالم بالعلم مثل أبي الحجاج العابد، عالم بالعلم ليس بعالم بالله فلان وفلان وذكر بعض الفقهاء .

                                                                                                                                                                                              وروى الثوري عن أبي حيان التميمي سعيد بن حيان عن رجل قال: كان يقال: العلماء ثلاثة: "فعالم بالله ليس عالما بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس عالما بالله، وعالم بالله عالم بأمر الله" .

                                                                                                                                                                                              فالعالم بالله وبأوامر الله: الذي يخشى الله ويعلم الحدود والفرائض .

                                                                                                                                                                                              والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله: الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود والفرائض .

                                                                                                                                                                                              والعالم بأمر الله ليس بعالم بالله: الذي يعلم الحدود والفرائض، ولا يخشى الله عز وجل .

                                                                                                                                                                                              وأما بيان أن انتفاء الخشية ينتفي مع العلم، فإن العلم له موجب ومقتضى، وهو اتباعه والاهتداء به وصده الجهل، فإذا انتفت فائدته ومقتضاه، صار حاله كحاله عند عدمه وهو الجهل، وقد تقدم أن الذنوب إنما تقع عن جهالة، وبينا دلالة القرآن على ذلك وتفسير السلف له بذلك، فيلزم حينئذ أن ينتفي العلم ويثبت الجهل عند انتفاء فائدة العلم ومقتضاه وهو اتباعه، ومن هذا الباب قوله تعالى: وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم" . وهذا كما يوصف من لا ينتفع بسمعه وبصره وعقله [ ص: 142 ] في معرفة الحق والانقياد له بأنه أصم أبكم أعمى قال تعالى: صم بكم عمي فهم لا يعقلون ويقال أيضا: إنه لا يسمع ولا يبصر ولا يعقل كما قال الله تعالى: ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون فسلب العلم والعقل والسمع والبصر وإثبات الجهل والبكم والصم والعمى في حق من فقد حقائق هذه الصفات وفوائدها من الكفار أو المنافقين أو من يشركهم في بعض ذلك كله; من باب واحد وهو سلب اسم الشيء أو مسماه لانتفاء مقصوده وفائدته وإن كان موجودا، وهو باب واسع وأمثلته كثيرة في الكتاب والسنة .

                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية