الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                              ومما يشرع فيه التمسكن لله عز وجل حال الصلاة كما في حديث الفضل بن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصلاة مثنى مثنى تشهد في كل ركعتين، وتخشع، وتضرع، وتمسكن، وتقنع يديك - يقول ترفعهما - وتقول: يارب ثلاثا، فمن لم يفعل ذلك فهي خداج " خرجه الترمذي وغيره . وكذلك يشرع إظهار المسكنة في الدعاء، خرج الطبراني من حديث ابن عباس قال: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو بعرفة ويداه إلى صدره كاستطعام المسكين " . ومن حديثه أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في دعائه عشية عرفة: "أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير " . وكان بعض السلف يجلس بالليل مطرقا رأسه ويمد يديه وهو ساكت كحال المسكين المستعطي . وقال طاوس: دخل علي بن الحسين الحجر ليلة فصلى فسمعته يقول في سجوده: عبيدك بفنائك، مسكينك بفنائك، فقيرك بفنائك، سائلك بفنائك، قال طاوس: فحفظتهن فما دعوت بهن في كرب إلا فرج عني . وكان بعض العباد قد حج ثمانين حجة على قدميه فبينما هو في الطواف وهو يقول: ياحبيبي ياحبيبي، فهتف هاتف: ليس ترضى أن تكون مسكينا حتى تكون حبيبا فغشي عليه، فكان بعد ذلك يقول: مسكينك، مسكينك . [ ص: 206 ] شعر لابن تيمية شيخ الإسلام رحمه الله:

                                                                                                                                                                                              أنا الفقير إلى رب السماوات . أنا المستكين في مجموع حالاتي     أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي .
                                                                                                                                                                                              والخير إن جاءها من عنده ياتي



                                                                                                                                                                                              قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأن تغفر لي وترحمني " المغفرة والرحمة يجمعان خير الآخرة كله; لأن المغفرة ستر الذنب مع وقاية شره، وقد قيل: إنه لا تجتمع المغفرة مع عقوبة الذنب حيث كانت المغفرة وقاية لشر الذنب، وهذا لا يكون مع عقوبة عليه، ولذلك سمي المغفر مغفرا لأنه يستر الرأس ويقيه الأذى، وهذا بخلاف العفو فإنه يكون تارة قبل العقوبة وتارة بعدها . وأما الرحمة فهي دخول الجنة، وعلو درجاتها، وجميع ما في الجنة من النعيم بالمخلوقات ومن رضى الله عز وجل وقربه ومشاهدته وزيارته فإنه من رحمة الله تعالى، وفي الحديث الصحيح: "إن الله عز وجل يقول للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي " فكل ما في الجنة فهو من رحمة الله عز وجل وإنما تنال برحمته لا بالعمل كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " . قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون " . المقصود من هذا الدعاء سلامة العبد من فتن الدنيا مدة حياته فإن قدر الله عز وجل على عباده فتنة قبض عبده إليه قبل وقوعها وهذا من أهم الأدعية فإن المؤمن إذا عاش سليما من الفتن ثم قبضه الله قبل وقوعها وحصول الناس فيها كان في ذلك نجاة له من الشر وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يتعوذوا من الفتن ما ظهر منها [ ص: 207 ] وما بطن، وفي حديث آخر "وجنبنا الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن "، وكان يخص بعض الفتن العظيمة بالذكر، وكان يتعوذ بالله في صلاته من أربع ويأمر بالتعوذ منها "أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال " ففتنة المحيا تدخل فيها فتن الدين والدنيا كلها كالكفر والبدع والفسوق والعصيان، وفتن الممات يدخل فيها سوء الخاتمة، وفتنة الملكين في القبر فإن الناس يفتنون في قبورهم مثل أو قريبا من فتنة الدجال، ثم خص فتنة الدجال بالذكر لعظم موقعها فإنه لم يكن في الدنيا فتنة قبل يوم القيامة أعظم منها وكلما قرب الزمان من الساعة كثرت الفتن .

                                                                                                                                                                                              وفي حديث معاوية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنه لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتنة " وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الفتن التي كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا . وكان أول هذه الفتن ما حدث بعد عمر - رضي الله عنه - ونشأ من تلك قتل عثمان - رضي الله عنه - وما ترتب عليه من إراقة الدماء وتفرق القلوب وظهور فتن الدين كبدع الخوارج المارقين من الدين وإظهارهم ما أظهروا، ثم ظهور بدع أهل القدر والرفض ونحوهم، وهذه هي الفتن التي تموج كموج البحر المذكورة في حديث حذيفة المشهور للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين سأله عنها عمر وكان حذيفة - رضي الله عنه - . [ ص: 208 ] من أكثر الناس سؤالا للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن الفتن خوفا من الوقوع فيها، ولما حضره الموت قال: حبيب جاء على فاقة لا أفلح من ندم، الحمد لله الذي سبقت بي الفتنة قادتها وعلوجها . وكان موته قبل قتل عثمان بنحو من أربعين يوما وقيل: بل مات بعد قتل عثمان . وكان في تلك الأيام رجل من الصحابة نائما فأتاه آت في منامه فقال له: قم، فاسأل الله أن يعيذك من الفتنة التي أعاذ منها صالح عباده، فقام فتوضأ وصلى ثم اشتكى ومات بعد قليل .

                                                                                                                                                                                              وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لرجل: "إذا مت أنا وأبو بكر وعمر وعثمان فإن استطعت أن تموت فمت " وهذا إشارة إلى هذه الفتن التي وقعت بمقتل عثمان - رضي الله عنه - . والدعاء بالموت خشية الفتنة في الدين جائز وقد دعا به الصحابة - رضي الله عنهم - والصالحون بعدهم، ولما حج عمر - رضي الله عنه - آخر حجة حجها استلقى بالأبطح ثم رفع يديه وقال: اللهم إنه قد كبر سني ورق عظمي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون، ثم رجع إلى المدينة، فما انسلخ حتى قتل - رضي الله عنه - . ودعا علي ربه أن يريحه من رعيته حيث سئم منهم فقتل عن قريب . ودعت زينب بنت جحش - رضي الله عنها - لما جاءها عطاء عمر من المال فاستكثرته وقالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعدها فماتت قبل العطاء الثاني . ولما ضجر عمر بن عبد العزيز من رعيته حيث ثقل عليهم قيامه فيهم بالحق [ ص: 209 ] طلب من رجل كان معروفا بإجابة الدعوة أن يدعو له بالموت فدعا له ولنفسه بالموت فماتا .

                                                                                                                                                                                              ودعي طائفة من السلف الصالح إلى ولاية القضاء فاستمهلوا ثلاثة أيام فدعوا الله لأنفسهم بالموت فماتوا .

                                                                                                                                                                                              واطلع على حال بعض الصالحين ومعاملاته التي كانت سرا بينه وبين ربه . فدعا الله أن يقبضه إليه خوفا من فتنة الاشتهار، فمات فإن الشهرة بالخير فتنة، كما جاء في الحديث "كفى بالمرء فتنة أن يشار إليه بالأصابع فإنها فتنة" وكان سفيان الثوري يتمنى الموت كثيرا فسئل عن ذلك فقال: ما يدريني لعلي أدخل في بدعة، لعلي أدخل فيما لا يحل لي، لعلي أدخل في فتنة أكون قد مت فسبقت هذا .

                                                                                                                                                                                              واعلم أن الإنسان لا يخلو من فتنة . قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: لا يقل أحدكم أعوذ بالله من الفتن ولكن ليقل: أعوذ بالله من مضلات الفتن ثم تلا قوله تعالى: إنما أموالكم وأولادكم فتنة يشير إلى أنه لا يستعاذ من المال والولد وهما فتنة . وفي "المسند" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أم سلمة أن تقول: "اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن ما أبقيتني " وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء والأموال فتنة ففي "الصحيح " عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" وفيه أيضا أنه - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 210 ] قال: "والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم " .

                                                                                                                                                                                              وفي "صحيح مسلم " عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "اتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" وفي الترمذي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال " وقد قال الله عز وجل: وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا فالرجل فتنة للمرأة، والمرأة فتنة للرجل، والغني فتنة للفقير، والفقير فتنة للغني، والفاجر فتنة للبر، والبر فتنة للفاجر، والكافر فتنة للمؤمن، والمؤمن فتنة للكافر، كما قال الله تعالي: وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين وقال عز وجل: ونبلوكم بالشر والخير فتنة فجعل كل ما يصيب الإنسان من شر أو خير فتنة يعني أنه محنة يمتحن بها فإن أصيب بخير استحق به شكره، وإن أصيب بسوء استحق به صبره، وفتنة السراء أشد من فتنة الضراء . قال عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - بلينا بفتنة الضراء فصبرنا، وبلينا بفتنة السراء فلم نصبر . قال بعضهم: فتنة الضراء يصبر عليها البر والفاجر ولا يصبر على فتنة السراء إلا صديق .

                                                                                                                                                                                              ولما ابتلي الإمام أحمد بفتنة الضراء صبر ولم يجزع وقال: كانت زيادة في إيماني، فلما ابتلي بفتنة السراء جزع وتمنى الموت صباحا ومساء وخشي أن يكون نقصا في دينه . [ ص: 211 ] ثم إن المؤمن لا بد أن يفتن بشيء من الفتن - المؤلمة الشاقة عليه ليمتحن إيمانه، كما قال الله تعالى: الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين

                                                                                                                                                                                              ولكن الله يلطف بعباده المؤمنين في هذه الفتن ويصبرهم عليها، ويثيبهم فيها، ولا يلقيهم في فتنة مهلكة مضلة تذهب بدينهم، بل تمر عليهم الفتن وهم منها في عافية .

                                                                                                                                                                                              وأخرج ابن أبي الدنيا من حديث ابن عمر مرفوعا " إن لله ضنائن من عباده يغذوهم في رحمته ويحييهم في عافية ويتوفاهم إلى جنته أولئك الذين تمر عليهم الفتن كقطع الليل المظلم، وهم منها في عافية" والفتن الصغار التي يبتلى بها المرء في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الطاعات من الصلاة والصيام والصدقة، لذا جاء في حديث حذيفة . وروي عنه أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن في لساني ذربا وإن عامة ذلك على أهلي؟ فقال له: " أين أنت من الاستغفار؟ " .

                                                                                                                                                                                              وأما الفتن المضلة التي يخشى منها فساد الدين فهي التي يستعاذ منها ويسأل الموت قبلها، فمن مات قبل وقوعه في شيء من هذه الفتن فقد حفظه الله تعالى وحماه . وفي "المسند" عن محمود بن لبيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اثنتان يكرههما ابن آدم: يكره الموت، والموت خير للمؤمن من الفتن، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب " . [ ص: 212 ] قوله - صلى الله عليه وسلم - "وأسألك حبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يبلغني حبك" هذا الدعاء يجمع كل خير، فإن الأفعال الاختيارية من العباد إنما تنشأ عن محبة وإرادة، فإن كانت محبة الله ثابتة في قلب العبد نشأت عنها حركات الجوارح فكانت بحسب ما يحبه الله ويرتضيه، فأحب ما يحبه الله عز وجل من الأعمال والأقوال كلها، ففعل حينئذ الخيرات كلها وترك المنكرات كلها، وأحب من يحبه الله من خلقه، وهذا الدعاء كانت الأنبياء عليهم السلام يدعون به كما في الترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن داود عليه السلام كان يقول: اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك، وحب عمل يبلغني إلى حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومن الماء البارد" وفيه أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو: "اللهم ارزقني حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يبلغني إلى حبك، اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب . وما زويت عني مما أحب فاجعله فراغا لي فيما تحب " .

                                                                                                                                                                                              وفي حديث مرسل خرجه ابن أبي الدنيا وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلي، وخشيتك أخوف الأشياء عندي واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك وإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم فأقرر عيني في عبادتك " ومن كان همه طلب محبة الله عز وجل أعطاه الله فوق ما يريده من الدنيا تبعا .

                                                                                                                                                                                              قال بعض السلف: لما توفي داود عليه السلام أرسل الله عز وجل إلى سليمان عليه السلام ألك حاجة تسألني إياها؟ فقال سليمان: أسأل الله أن يجعل قلبي يحبه كما كان قلب أبي داود يحبه، وأن يجعل قلبي يخشاه كما [ ص: 213 ] كان قلب أبي داود يخشاه، فشكر الله له ذلك وأعطاه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده .

                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية