الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1020 [ ص: 215 ] حديث خامس لحميد الطويل ، عن أنس متصل صحيح

مالك ، عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى خيبر أتاها ليلا ، وكان إذا أتى قوما بليل لم يغر حتى يصبح ، فلما أصبح خرجت يهود بمساحيهم ومكاتلهم ، فلما رأوه ، قالوا : محمد والله محمد والخميس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين

التالي السابق


في هذا الحديث إباحة المشي بالليل ، فإذا كان ذلك كذلك جاز الاستخدام بالمماليك والأحرار إذا اشترط ذلك عليهم وكانت ضرورة ، وفيه إتعاب الدواب بالليل عند الحاجة إلى ذلك ما لم يكن سرمدا ; لأن العلم محيط أنهم لم يخلوا من مملوك يخدمهم وأجير ، ونحو ذلك ، وفيه أن الغارة على العدو ، إنما ينبغي أن تكون في وجه الصباح لما في ذلك من التبيين والنجاح في البكور ، وفيه أن من بلغته الدعوة من الكفار لم يلزم دعاؤه ، وجازت الغارة عليه ، وطلب غفلته وغرته ، وقد اختلف العلماء في دعاء العدو قبل القتال إذا كانوا قد بلغتهم الدعوة ، فكان مالك رحمه الله ، يقول : الدعوة أصوب بلغهم ذلك ، أو لم يبلغهم ، إلا أن يعجلوا المسلمين أن يدعوهم .

وقال عنه ابن القاسم : لا يبيتوا حتى يدعوا ، وذكر الربيع ، عن الشافعي في كتاب البويطي مثل ذلك : لا يقاتل العدو حتى يدعوا ، إلا أن يعجلوا عن ذلك ، فإن لم يفعل فقد بلغتهم الدعوة .

وحكى المزني ، عن الشافعي : من لم تبلغهم الدعوة لم يقاتلوا حتى تبلغهم الدعوة ، يدعون إلى الإيمان ، قال : وإن قتل منهم أحد قبل ذلك فعلى قاتله [ ص: 216 ] الدية .

وقال المزني ، عنه أيضا في موضع آخر : من بلغتهم الدعوة ، فلا بأس أن يغار عليهم بلا دعوة .

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : إن دعوهم قبل القتال فحسن ، ولا بأس أن يغيروا عليهم .

وقال الحسن بن صالح بن حي : يعجبني كل ما حدث إمام بعد إمام أحدث دعوة لأهل الشرك .

قال أبو عمر : هذا قول حسن والدعاء قبل القتال على كل حال حسن ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر سراياه بذلك ، وكان يدعو كل من يقاتله مع اشتهار كلمته ودينه في جزيرة العرب وعلمهم بمنابذته إياهم ومحاربته لمن خالفه ، وما أظنه أغار على خيبر ، وعلى بني المصطلق إلا بأثر دعوته لهم في فور ذلك ، أو قريب منه مع يأسه عن إجابتهم إياه ، وكذلك كان تبييته وتبييت جيوشه لمن بيتوا من المشركين على هذا الوجه ، والله أعلم .

وفي التبييت حديث الصعب بن جثامة وحديث سلمة بن الأكوع ، قال : أمر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فغزونا ناسا فبيتناهم وقتلناهم ، قال : وكان شعارنا في تلك الليلة أمت أمت ، قال سلمة : فقتلت بيدي تلك الليلة سبعة أبيات من المشركين .

قال أبو عمر : هذا - والله أعلم - ومثله لقوم أظهروا العناد والأذى للمسلمين ويئس من إنابتهم وخيرهم ، والله أعلم .

أخبرنا أبو محمد عبد الله [ ص: 217 ] بن محمد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، أخبرنا علي بن حرب الطائي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما حتى يدعوهم ، وهذا يحتمل ممن لم تبلغهم الدعوة ويحتمل من كل كافر محارب .

حدثني سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية ، أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ، ومن معه من المسلمين خيرا ، ثم قال : اغزوا باسم الله ، وفي سبيل الله تقاتلون من كفر بالله ، اغزوا ، ولا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليدا ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال ، أو خلال ، فأيها أجابوك إليها ، فاقبل منهم وكف عنهم ، ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم ، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأعلمهم أنهم إن فعلوا ، فإن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين ، فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله كما يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب ، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية ، فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم ، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم .

[ ص: 218 ] قال أبو عمر : هذا من أحسن حديث يروى في معناه ، إلا أن فيه التحول عن الدار ، وذلك منسوخ ، نسخه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : لا هجرة بعد الفتح ، وإنما كان هذا منه صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة ، فلما فتح الله عليه مكة ، قال لهم : قد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية إلى يوم القيامة .

حدثنا أحمد بن قاسم بن عيسى المقرئ ، قال : حدثنا عبيد الله بن محمد بن إسحاق بن حبابة ببغداد ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، قال : حدثنا خلف بن هشام البزار ، قال : حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم ، عن أبيه ، عن سهل بن سعد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال يوم خيبر : لأعطين الراية رجلا يفتح الله على يديه فذكر أن الناس طمعوا في ذلك ، فلما كان من الغد ، قال : أين علي ؟ ، فقال : على رسلك انفذ حتى تنزل بساحتهم ، فإذا أنزلت بساحتهم فادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم منه من الحق ، أو من حق الله ، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم .

قال أبو عمر : هذا حديث ثابت في خيبر أنهم لم يقاتلهم حينئذ حتى دعاهم ، وهو شيء قصر عنه أنس في حديثه ، وذكره سهل بن سعد ، وقد روي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عليا أن لا يقاتل [ ص: 219 ] قوما حتى يدعوهم . رواه ابن عيينة ، عن عمر بن ذر ، عن ابن أخي أنس بن مالك ، عن عمه ، وخالف أبو إسحاق الفزاري ابن عيينة في إسناد هذا الحديث ، وابن عيينة أحفظ إن شاء الله .

قال أبو عمر : فلهذه الآثار قلنا إن الدعاء أحسن وأصوب ، فإن أغار عليهم ، ولم يدعهم ، ولم يشعرهم وكانوا قد بلغتهم الدعوة فمباح جائز ; لما رواه نافع ، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون ، وأنعامهم على الماء ، فقتل مقاتلتهم وسبى ذريتهم وكانت فيهم جويرية .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر التمار بالبصرة ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : حدثنا إسماعيل بن علية ، قال : أخبرنا ابن عون ، قال : كتبت إلى نافع أسأله عن دعاء المشركين عند القتال فكتب إلي : أن ذلك كان في أول الإسلام ، وقد أغار نبي الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلهم وسبى سبيهم ، وأصاب يومئذ جويرية بنت الحارث . حدثني بذلك عبد الله ، وكان في ذلك الجيش .

قال أبو داود : هذا حديث نبيل ، رواه ابن عون ، عن نافع لم يشركه فيه أحد .

وروى صالح بن أبي الأخضر عن الزهري ، عن عروة أن أسامة بن زيد حدثه أن رسول [ ص: 220 ] الله صلى الله عليه وسلم عهد إليه ، فقال : أغر على أبنى صباحا وحرق .

حدثناه عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا ابن الأصبهاني ، قال : أخبرنا ابن المبارك وعيسى بن يونس ، عن صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن أسامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره سواء .

وحدثناه عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا هناد بن السري ، عن ابن المبارك ، عن صالح بإسناده مثله . قال أبو داود : وحدثنا محمد بن عمرو الغزي ، قال : سمعت أبا مسهر ، يقول : وقيل له أبنى ، فقال : نحن أعلم هي يبنى فلسطين .

قال أبو عمر : قد روى هذا الحديث ، عن صالح بن أبي الأخضر وكيع وعيسى بن يونس ، فقالا فيه : يبنى كما قال أبو مسهر ، حدثناه سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر ، قال : حدثنا وكيع ، عن صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى قرية ، يقال لها يبنى ، فقال : ائتها صباحا ، ثم حرق .

وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا يعقوب بن كعب ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري ، عن عروة ، قال : فحدثني أسامة بن زيد أن رسول الله [ ص: 221 ] صلى الله عليه وسلم ، قال : أغر على يبنى ذا صباح وحرق .

وروى حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير على العدو عند صلاة الصبح ويستمع ، فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار . فهذا كله دليل على أنه ربما لم يدع ، وذلك فيمن بلغته الدعوة ، فأما من لم تبلغه الدعوة لبعد داره ، فلا بد من دعائه ، قال الله عز وجل : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ، وهذا الحديث مما رواه يحيى القطان ، عن حماد بن سلمة ، حدثناه أحمد بن قاسم بن عيسى المقرئ ، قال : حدثنا ابن حبابة ، قال : حدثنا البغوي ، قال : حدثنا زهير بن حرب ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس الحديث بتمامه .

وهذا يرد قول من قال : إن القطان لا يحدث عن حماد بن سلمة .

وحدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ، قال : حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد بن نصير بن لؤلؤ البغدادي بمدينة السلام ، قال : حدثنا جعفر بن محمد الفريابي ، قال : حدثنا هدبة بن خالد ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، فذكره .

وروى عصام المزني ، عن النبي عليه السلام مثل حديث حماد ، عن ثابت بن أنس في ذلك .

وأما قوله في حديث مالك ، عن حميد ، عن أنس : بمساحيهم ومكاتلهم ، فإنه يعني المحافر والقفاف ، كانوا يخرجون لأعمالهم .

وأما قولهم : محمد والخميس ، فالخميس العسكر والجيش .

قال حميد بن ثور الهلالي فيما ذكر بعض أهل الخبر ، ولا يصح له : [ ص: 222 ]

حتى إذا رفع اللواء رأيته تحت اللواء على الخميس زعيما

ويروى هذا البيت لليلى الأخيلية ، وهو صحيح لها ، وهذه القصيدة مذهبتها فيها قولها :


ومخرق عنه القميص تخاله عند اللقاء من الحياء سقيما
حتى إذا رفع اللواء رأيته يوم الهياج على الخميس زعيما

والزعيم في هذا الموضع الرئيس ، ومنه قول الشاعر :


ولكن الزعامة للغلام

يعني الرئاسة ، والزعيم في غير هذا الكفيل والضامن من قول الله عز وجل وأنا به زعيم .

وقال أبو الحسن بن لنكك في مقصورته :


فزادهم منا خميس جحفل تعثر منه الخيل عثرا بالقنا

وقال بكر بن حماد في قصيدة له يرثي بها حبيب بن أويس الطائي ، يخاطب أخاه سهم بن أوس :


أنسيت يوم الجسر خلة وده والدهر غض بالسرور المقبل
أيام سار أبو سعيد واليا نحو الجزيرة في خميس جحفل

[ ص: 223 ] وأما قوله : إذا نزل بساحة قوم فالساحة والسحسحة عرصة الدار .

أخبرني خلف بن سعيد ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن خالد ، قال : حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس ، عن أبي طلحة ، قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم ، فلو قلت : إن ركبتي تمس ركبته صدقت ، يعني عام خيبر ، قال : فسكت عنهم حتى إذا كان عند السحر وذهب ذو الضرع إلى ضرعه وذو الزرع إلى زرعه أغار عليهم ، وقال : إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين .

قال أبو عمر : قد كان دعاهم ، وذلك موجود في حديث سهل بن سعد في قصة علي ، ولا يشك في بلوغ دعوته خيبر لقرب الديار من الديار ، وفي هذا الحديث إباحة الاستشهاد بالقرآن فيما يحسن ويجمل .




الخدمات العلمية