الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1318 [ ص: 313 ] حديث ثان لداود بن الحصين متصل صحيح

مالك ، عن داود بن الحصين ، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة والمحاقلة . والمزابنة اشتراء التمر بالتمر في رءوس لنخل ، والمحاقلة كراء الأرض بالحنطة .

التالي السابق


قد جاء في هذا الحديث مع جودة إسناده تفسير المزابنة والمحاقلة وأقل أحواله إن لم يكن التفسير مرفوعا فهو من قول أبي سعيد الخدري ، وقد أجمعوا أن من روى شيئا وعلم مخرجه سلم له في تأويله ; لأنه أعلم به ، وقد جاء عن عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله في تفسير المزابنة نحو ذلك . روى ابن جريج ، قال : أخبرني موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة ، قال عبد الله بن عمر : والمزابنة أن يبيع الرجل ثمر حائطه بتمر كيلا إن كانت نخلا ، أو زبيبا إن كانت كرما ، أو حنطة إن كانت زرعا .

قال أبو عمر : هذا أبين شيء وأوضحه في ذلك .

وروى حماد بن سلمة ، عن عمرو بن دينار أن ابن عمر سئل عن رجل باع ثمر أرضه من رجل بمائة فرق يكيل له منها ، فقال ابن عمر : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا ، وهو المزابنة .

وروى ابن عيينة ، عن ابن جريح ، عن عطاء ، عن جابر بن عبد الله ، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن المخابرة والمحاقلة والمزابنة وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه ، وألا يباع إلا بالدنانير والدراهم ، إلا العرايا ، قال سفيان : [ ص: 314 ] المخابرة كراء الأرض بالحنطة ، والمزابنة بيع ما في رءوس النخل بالتمر ، والمحاقلة بيع السنبل من الزرع بالحب المصفى ، فهؤلاء ثلاثة من الصحابة قد فسروا المزابنة بما تراه ، ولا مخالف لهم علمته ، بل قد أجمع العلماء على أن ذلك مزابنة ، وكذلك أجمعوا على أن كل ما لا يجوز إلا مثلا بمثل أنه لا يجوز منه كيل بجزاف ، ولا جزاف بجزاف ; لأن في ذلك جهل المساواة ، ولا يؤمن مع ذلك التفاضل ، ولم يختلفوا أن بيع الكرم بالزبيب والرطب بالتمر المعلق في رءوس النخل والزرع بالحنطة مزابنة ، إلا أن بعضهم قد سمى بيع الحنطة بالزرع محاقلة أيضا ، وسنذكر مذاهبهم في المحاقلة ومعانيهم فيها بعد الفراغ من القول في معنى المزابنة عندهم في هذا الباب إن شاء الله .

أما مالك رحمه الله فمذهبه في المزابنة أنها بيع كل مجهول بمعلوم من صنف ذلك كائنا ما كان ، سواء كان مما يجوز فيه التفاضل أم لا ; لأن ذلك يصير إلى باب المخاطرة والقمار ، وذلك داخل عنده في معنى المزابنة ، وفسر المزابنة في الموطأ تفسيرا يوقف به على المراد من مذهبه في ذلك ، وبينه بيانا شافيا يغني عن القول فيه ، فقال : كل شيء من الجزاف لا يعلم كيله ، ولا وزنه ، ولا عدده ، فلا يجوز ابتياعه بشيء من الكيل ، أو الوزن ، أو العدد . يعني من صنفه ، ثم شرح ذلك بكلام معناه : كرجل قال لرجل له تمر في رءوس شجر ، أو صبرة من طعام ، أو غيره من نوى ، أو عصفر ، أو بزر كتان ، أو حب بان ، أو زيتون ، أو نحو ذلك ، أنا آخذ زيتونك بكذا وكذا ربعا ، أو رطلا من زيت أعصرها ، فما نقص فعلي ، وما زاد فلي ، وكذلك حب البان ، أو السمسم بكذا وكذا رطلا من البان ، أو الجلجلان ، أو كرمك بكذا وكذا [ ص: 315 ] من الزبيب كيلا معلوما ، فما زاد فلي ، وما نقص فعلي ، وكذلك صبر العصفر ، أو الطعام ، وما أشبه هذا كله ، قال مالك : فليس هذا ببيع ، ولكنه من المخاطرة والغرر والقمار فيضمن له ما سمى من الكيل ، أو الوزن ، أو العدد على أن له ما زاد وعليه ما نقص ، فهذا غرر ومخاطرة ، وعند مالك أنه كما لم يجز أن يقول له : أنا أضمن لك من كرمك كذا وكذا من الزبيب معلوما ، أو من زيتونك كذا وكذا من الزيت معلوما ، ومن صبرتك في القطن ، أو العصفر ، أو الطعام كذا وكذا وزنا ، أو كيلا معلوما فكذلك لا يجوز أن يشتري شيئا من ذلك كله مجهولا بمعلوم من صنفه مما يجوز فيه التفاضل ومما لا يجوز . وقد نص على أنه لا يجوز بيع الزيتون بالزيت ، ولا الجلجلان بدهن الجلجلان ، ولا الزبد بالسمن ، قال : لأن المزابنة تدخله ، ومن المزابنة عنده بيع اللحم بالحيوان من صنفه ، ولو قال رجل لآخر : أنا أضمن لك من جزورك هذه ، أو من شاتك هذه كذا وكذا رطلا ما زاد فلي ، وما نقص فعلي ، كان ذلك مزابنة ، فلما لم يجز ذلك لم يجز أن يشتروا الجزور ، ولا الشاة بلحم ; لأنهم يصيرون عنده إلى ذلك المعنى ، وسنذكر ما للعلماء في بيع اللحم بالحيوان في باب زيد بن أسلم إن شاء الله .

وقال إسماعيل بن إسحاق : لو أن رجلا قال لصاحب البان : أعصر حبك هذا ، فما نقص من مائة رطل فعلي ، وما زاد فلي ، فقال له : إن هذا لا يصلح ، فقال : أنا أشتري منك هذا الحب بكذا وكذا رطلا من البان لدخل في المزابنة ; لأنه قد صار إلى معناها إذا كان البان الذي اشترى به حب البان قد قام مقاما لم يكن يجوز له من الضمان الذي ضمنه في عصر البان .

قال إسماعيل : ولو أن صاحب البان اشترى معلوما بمعلوم من البان متفاضلا لجاز عند مالك ; لأنه اشترى شيئا عرفه بشيء قد عرفه ، فخرج من باب القمار ، قال أبو الفرج : وكذلك السمسم بدهنه إذا كانا معلومين ، فإن كان معلوما بمجهول لم يجز . وقد اختلف قول مالك في غزل الكتان بثوب الكتان وغزل الصوف بثوب الصوف .

[ ص: 316 ] وتحصيل مذهبه أن ذلك يجوز نقدا إذا كان معلوما بمعلوم .

وقال أبو الفرج : إذا أريد بابتياع شيء من المجهول الانتفاع به لوقته ، وكان ذلك مما جرت به العادة جاز بيعه كلبن الحليب بالمخيض إذا أريد بالحليب وقته وكالقصيل بالشعير إذا أريد قطع القصيل لوقته وكالتمر بالبلح إذا جد البلح لوقته ، قال : وكذلك لا بأس ببيع كل ما خرج عن أن يكون مضمونا من المجهول كدهن البان المطيب بحبه وكالشعير بالقصيل الذي لا يكون منه شعير .

واختلف قول مالك في النوى بالتمر فيما ذكر ابن القاسم ، فمرة كرهه وجعله مزابنة .

وقال في موضع آخر : لا بأس بذلك ، قال ابن القاسم : لأنه ليس بطعام ، قال أبو الفرج : ظن ابن القاسم أنه ليس من باب المزابنة فاعتل أنه ليس بطعام والمنع منه أشبه بقوله .

قال أبو عمر : لم يختلف قول مالك أنه لا يجوز شراء السمسم ، أو الزيتون على أن على البائع عصره ، قال مالك : لأنه إنما اشترى منه ما يخرج من زيته ودهنه . وأجاز بيع القمح على أن على البائع طحنه ، قال ابن القاسم : قال لي مالك : فيه غرر وأرجو أن يكون خفيفا .

وقال إسماعيل : كأن مالكا كان عنده ما يخرج من القمح معلوما لا يتفاوت إلا قريبا ، فأخرجه من باب المزابنة وجعله من باب بيع وإجارة كمن ابتاع من رجل ثوبا على أن يخيطه له .

قال أبو عمر : قد أوردنا من أصول مذهب مالك في المزابنة ما يوقف به على المراد والبغية ، والله أعلم .

وأما الشافعي ، فقال : جماع المزابنة أن ينظر كل ما عقد بيعه ، وفي الفضل في بعضه ببعض يدا بيد ربا ، فلا يجوز منه شيء يعرف بشيء منه جزافا ، ولا جزافا بجزاف من صنفه .

وأما أن يقول : أضمن لك صبرتك هذه بعشرين صاعا ، فما زاد فلي ، وما نقص فعلي تمامها ، فهذا من القمار والمخاطرة ، وليس من المزابنة .

[ ص: 317 ] قال أبو عمر : ما قدمنا عن أبي سعيد الخدري وابن عمر وجابر في تفسير المزابنة يشهد لما قاله الشافعي ، وهو الذي تدل عليه الآثار المرفوعة في ذلك ويشهد لقول مالك ، والله أعلم .

أصل معنى المزابنة في اللغة المخاطرة ; لأنه لفظ مأخوذ من الزبن ، وهو المقامرة والدفع والمغالبة ، وفي معنى القمار والزيادة والنقصان أيضا حتى لقد قال بعض أهل اللغة : إن القمر مشتق من القمار لزيادته ونقصانه فالمزابنة والقمار والمخاطرة شيء متداخل حتى يشبه أن يكون أصل اشتقاقهما واحدا ، والله أعلم .

تقول العرب حرب زبون أي ذات دفع وقمار ومغالبة .

وقال أبو الغول الطهوي :


فوارس لا يملون المنايا إذا دارت رحى الحرب الزبون

وقال معمر بن لقيط الإيادي :

عبل الذراع أبياذا مزابنة في الحرب يختتل الرئال والسقبا

وقال معاوية :

ومستعجب مما رأى من أناتنا ولو زبنته الحرب لم يترمرم

وروى مالك ، عن داود بن الحصين أنه سمع سعيد بن المسيب ، يقول : كان من ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين ، فأخبر سعيد بن المسيب أن ذلك ميسر والميسر القمار فدخل في معنى المزابنة .

قال أبو عمر : من أحسن ما روي في تفسير المزابنة وأرفعه ما ذكرناه ، ما رواه حماد بن سلمة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عمر .

قال أبو عمر : فهذا جليل من الصحابة قد فسر المزابنة على نحو ما فسرها [ ص: 318 ] مالك في موطئه سواء ، فأما المحاقلة فللعلماء فيها ثلاثة أقوال ، منهم من قال : معناها ما جاء في هذا الحديث من كراء الأرض بالحنطة ، قالوا : وفي معنى كراء الأرض بالحنطة في تأول هذا الحديث كراؤها بجميع أنواع الطعام على اختلاف ، قالوا : فلا يجوز كراء الأرض بشيء من الطعام ، سواء كان مما يخرج منها ويزرع فيها ، أو من سائر صنوف الطعام المأكول كله والمشروب نحو العسل والزيت والسمن وكل ما يؤكل ويشرب ; لأن ذلك عندهم في معنى بيع الطعام بالطعام نساء ؟ .

وكذلك لا يجوز كراء الأرض عندهم بشيء مما يخرج منها ، وإن لم يكن طعاما مأكولا ، ولا مشروبا سوى الخشب والقصب والحطب ; لأنه عندهم في معنى المزابنة وأصله عندهم النهي عن كراء الأرض بالحنطة ، هذا هو المحفوظ ، عن مالك وأصحابه ، وقد ذكر ابن سحنون ، عن المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي المدني أنه لا باس بكراء الأرض بطعام ، لا يخرج منها .

وروى يحيى بن عمر ، عن المغيرة أن ذلك ، لا يجوز كقول سائر أصحاب مالك ، ومن قال بالجملة التي قدمنا عن مالك وأصحابه : ابن القاسم وابن وهب وأشهب ومطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ . كلهم يقولون : لا تكرى الأرض بشيء مما يخرج منها أكل ، أو لم يؤكل ، ولا بشيء مما يؤكل ويشرب ، خرج منها أو لم يخرج منها .

وذكر ابن حبيب أن ابن كنانة كان يقول : لا تكرى الأرض بشيء إذا أعيد فيها نبت ، ولا بأس أن تكرى بما سوى ذلك من جميع الأشياء مما يؤكل ومما لا يؤكل ، خرج منها أو لم يخرج منها ، قال : وكان ابن نافع ، يقول : لا بأس أن تكرى الأرض بكل شيء من طعام وغيره ، خرج منها أو لم يخرج منها ، ما عدا الحنطة وأخواتها ، فإنها محاقلة .

وأجمع مالك وأصحابه كلهم أن الأرض لا يجوز كراؤها ببعض ما يخرج منها مما يزرع فيها ثلثا كان ، أو ربعا ، أو جزافا كان ; لأنه غرر ومحاقلة ، وقد نهى عن ذلك كله رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال جماعة من أهل العلم : معنى المحاقلة دفع الأرض على الثلث والربع ، وعلى جزء مما [ ص: 319 ] يخرج منها ، قالوا : وهي المخابرة أيضا ، فلا يجوز لأحد أن يعطي أرضه على جزء مما يخرج منها لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ; لأنه مجهول ، ولا يجوز الكراء بشيء معلوم ، قالوا : وكراء الأرض بالذهب والورق وبالعروض كلها الطعام وغيره مما ينبت في الأرض ، ومما لا ينبت فيها جائز ، كما يجوز كراء المنازل وإجارة العبيد ، هذا كله قول الشافعي ، ومن تابعه ، وهو قول أبي حنيفة وداود ، وإليه ذهب ابن عبد الحكم .

وقال آخرون : المحاقلة بيع الزرع في سنبله بعد أن يشتد ويستحصد بالحنطة .

ذكر الشافعي ، عن ابن عيينة ، عن ابن جريح ، قال : قلت لعطاء : ما المحاقلة ؟ ، قال : المحاقلة في الحرث كهيئة المزابنة في النخل سواء ، وهو بيع الزرع بالقمح ، قال ابن جريج : قلت لعطاء : فسر لكم جابر المحاقلة كما أخبرتني ؟ ، قال : نعم .

قال أبو عمر : وكذلك فسر المحاقلة سعيد بن المسيب في حديثه المرسل في الموطأ ، إلا أن سعيد بن المسيب جمع في تأويل الحديث الوجهين جميعا ، فقال : والمحاقلة اشتراء الزرع بالحنطة واستكراء الأرض بالحنطة ، وإلى هذا التفسير في المحاقلة أنه بيع الزرع في سنبله بالحنطة دون ما عداه ذهب الليث بن سعد والثوري والأوزاعي والحسن بن حي وأبو يوسف ومحمد ، وهو قول ابن عمر وطاوس ، وبه قال أحمد بن حنبل ، وكل هؤلاء لا يرون بأسا أن يعطي الرجل أرضه على جزء مما تخرجه نحو الثلث والربع ; لأن المحاقلة عندهم في معنى المزابنة وأنها في بيع الثمر بالثمر والحنطة بالزرع ، قالوا : ولما اختلف في المحاقلة كان أولى ما قيل في معناها ما تأولناه من بيع الزرع بالحنطة .

واحتجوا على صحة ما تأولوه وذهبوا إليه من إجازة كراء الأرض ببعض ما يخرج منها بقصة خيبر ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهلها على شطر ما تخرجه أرضهم [ ص: 320 ] وثمارهم ، وقد قال أحمد بن حنبل : حديث رافع بن خديج في النهي عن كراء المزارع مضطرب الألفاظ ، ولا يصح ، والقول بقصة خيبر أولى . واحتج بعض من لم يجز كراء الأرض ببعض ما يخرج منها أن قصة خيبر منسوخة بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة ; لأن لفظ المخابرة مأخوذ من خيبر . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عامل أهل خيبر على ما ذكرنا ، قيل : خابر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر ، أي عاملهم في أرض خيبر .

وقال الشافعي في قول ابن عمر : كنا نخابر ، ولا نرى بذلك بأسا حتى أخبرنا رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها - أي كنا نكري الأرض ببعض ما يخرج منها ، قال : وفي ذلك نسخ لسنة خيبر ، قال : وابن عمر روى قصة خيبر وعمل بها حتى بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى بعد ذلك عنها .

قال أبو عمر :

أما المحاقلة فمأخوذة عند أهل اللغة من الحقل وهي الأرض البيضاء المزروعة تقول له العرب البراح والحقل ، يقال حاقل فلان فلانا إذا زارعه كما خاضره إذا باعه شيئا أخضر ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخاضرة ، ونهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ، وكذلك يقال حاقل فلان فلانا إذا بايعه زرعا بحنطة ، وحاقله أيضا إذا أكرى منه الأرض ببعض ما يخرج منها كما يقال زارعه إذا عامله في زرع ، وهذا يكون من اثنين في أمرين مختلفين ، مثل بيع الزرع بالحنطة واكتراء الأرض بالحنطة لأنك لا تستطيع أن تشتق من الاسمين جميعا اسما واحدا للمفاعلة ، وإن اشتققت من أحدهما للمفاعلة لم تستدل على الآخر فلم يكن بد من الاثنين ، هذا قول ابن قتيبة وغيره .

وأما المخابرة ، فقال قوم : اشتقاقها من خيبر على ما قدمنا ذكره .

وقال آخرون : هي مشتقة من [ ص: 321 ] الخبر والخبر حرث الأرض وحملها . وزعم من تأول في المخابرة هذا التأويل أن لفظ المخابرة كان قبل خيبر ، ولا دليل على ما ادعى من ذلك ، والله أعلم .

حدثنا محمد بن محمد بن نظير وخلف بن أحمد و عبد الرحمن بن يحيى ، قالوا : حدثنا أحمد بن مطرف ، قال : حدثنا سعيد بن عثمان ، قال : حدثنا نصر بن مروان ، قال : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن أبي الزبير ، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومة وهي بيع السنين ، قال : والمخابرة أن يدفع الرجل أرضه بالثلث والربع .

قال أبو عمر :

المخابرة عند جمهور أهل العلم على ما في هذا الحديث من كراء الأرض بجزء مما تخرجه وهي المزارعة عند جميعهم . فكل حديث يأتي فيه النهي عن المزارعة ، أو ذكر المخابرة فالمراد به دفع الأرض على الثلث والربع ، والله أعلم .

فقف على ذلك واعرفه ، وسيأتي القول مستوعبا في كراء الأرض بما للعلماء في ذلك من أقاويل ، وما رووا في ذلك من الآثار ممهدة في باب ربيعة من كتابنا هذا إن شاء الله

.

والبيع في المزابنة إذا وقع كتمر بيع برطب وزبيب بيع بعنب ، وكذلك المحاقلة كزرع بيع بحنطة صبرة ، أو كيل معلوم ، أو تمر بيع في رءوس النخل جزافا بكيل من التمر معلوم ، فهذا كله إذا وقع فسخ إن أدرك قبل القبض ، أو بعده ، فإن قبض وفات رجع صاحب التمر بمكيلة تمره وجنسه على صاحب الرطب ورجع صاحب الرطب على صاحب التمر بقيمة رطبه يوم قبضه بالغا ما بلغ ، وكذلك يرجع صاحب النخل وصاحب الزرع بقيمة تمره وقيمة زرعه على صاحب المكيلة يوم قبضه ذلك بالغا ما بلغ ، ويرجع صاحب المكيلة بمكيلته في مثل صفة ما قبض منه .

[ ص: 322 ] قال أبو عمر :

كل من ذكرنا في هذا الباب من العلماء على اختلاف مذاهبهم ، من كره المزارعة منهم ، ومن أجازها ، كلهم متفقون على جواز المساقاة في النخل والعنب ، إلا أبا حنيفة وزفر فإنهما كرهاها وزعما أن ذلك منسوخ بالنهي عن المخابرة ، وخالف أبا حنيفة أصحابه وغيرهم ، إلا زفر . وسيأتي ذكر المساقاة في باب ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب إن شاء الله .




الخدمات العلمية