الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء

315 - ورد ذو تساهل في الحمل كالنوم والأداء كلا من أصل      316 - أو قبل التلقين أو قد وصفا
بالمنكرات كثرة أو عرفا      317 - بكثرة السهو وما حدث من
أصل صحيح فهو رد ثم إن      318 - بين له غلطه فما رجع
سقط عندهم حديثه جمع      319 - كذا الحميدي مع ابن حنبل
وابن المبارك رأوا في العمل      320 - قال : وفيه نظر ، نعم إذا
كان عنادا منه ما ينكر ذا

[ ما يخرم الضبط ] الثاني عشر : في التساهل وغيره مما يخرم الضبط .

( ورد ) عند أهل الحديث ( ذو تساهل في الحمل ) أي : التحمل للحديث وسماعه ( ك ) المتحمل حال ( النوم ) الكثير الواقع منه أو من شيخه ، مع عدم مبالاته بذلك ، فلم يقبلوا روايته .

وما وقع لهم من قبول الإمام الثقة الحجة عبد الله بن وهب مع وصف ابن المديني وغيره له بأنه كان رديء الأخذ .

[ ص: 104 ] وقول عثمان بن أبي شيبة : إنه رآه وأخوه أبو بكر وغيرهما من الحفاظ وهو نائم في حال كونه يقرأ له على ابن عيينة ، وإن عثمان قال للقارئ : أنت تقرأ وصاحبك نائم ، فضحك ابن عيينة . قال عثمان : فتركنا ابن وهب إلى يومنا هذا ، فقيل له : ولهذا تركتموه ؟ قال : نعم ، أتريد أكثر من ذا ؟ رواه الخطيب .

فلكونه في ذلك ماشيا على مذهب أهل بلده في تجويز الإجازة ، وأن يقال فيها : حدثني ، بل قال أحمد : إنه كان صحيح الحديث ، يفصل السماع من العرض ، والحديث من الحديث ، ما أصح حديثه ، فقيل له : أليس كان يسيء الأخذ ؟ قال : قد كان ، ولكنك إذا نظرت في حديثه عن مشايخه وجدته صحيحا .

ثم إنه لا يضر في كل من التحمل والأداء النعاس الخفيف الذي لا يختل معه فهم الكلام ، لا سيما من الفطن ، فقد كان الحافظ المزي ربما ينعس في حال إسماعه ، ويغلط القارئ أو يزل فيبادر للرد عليه ، وكذا شاهدت شيخنا غير مرة ، بل بلغني عن بعض العلماء الراسخين في العربية أنه كان يقرئ شرح ألفية النحو لابن المصنف وهو ناعس .

وما يوجد في الطباق من التنبيه على نعاس السامع أو المسمع لعله فيمن جهل حاله ، أو علم بعدم الفهم .

وأما امتناع التقي ابن دقيق العيد من التحديث عن ابن المقير مع صحة سماعه منه ; لكونه شك هل نعس حال السماع أم لا ، فلورعه ; فقد كان من [ ص: 105 ] الورع بمكان .

ونحوه أنه قيل لعلي بن الحسن بن شقيق المروزي : أسمعت الكتاب الفلاني ؟ فقال : نعم ، ولكن نهق حمار يوما فاشتبه علي حديث ، ولم أعرف تعيينه ، فتركت الكتاب كله . ( و ) كذلك رد عندهم ذو تساهل في حالة ( الأداء ) أي : التحديث ( ك ) المؤدي ( لا من أصل ) صحيح مع كونه هو أو القارئ أو بعض السامعين غير حافظ ، حسبما يأتي في بابه .

ومن ذلك من كان يحدث بعد ذهاب أصوله واختلال حفظه ، كفعل ابن لهيعة فيما حكاه هشام بن حسان ، فقال : جاء قوم ومعهم جزء فقالوا : سمعناه من ابن لهيعة ، فنظرت فلم أجد فيه حديثا واحدا من حديثه ، فأتيته وأعلمته بذلك ، فقال : ما أصنع ؟ يجيئوني بكتاب فيقولون : هذا من حديثك ، فأحدثهم به .

ونحوه ما وقع لمحمد بن خلاد الإسكندراني ، جاءه رجل بعد أن ذهبت كتبه بنسخة ضمام بن إسماعيل ويعقوب بن عبد الرحمن ، فقال له : أليس هما سماعك ؟ قال : نعم ، قال : فحدثني بهما ، قال : قد ذهبت كتبي ، ولا أحدث من غير أصل ، فما زال حتى خدعه ، ولذا من سمع منه قديما قبل ذهاب كتبه كان صحيح الحديث ، ومن تأخر فلا .

وممن وصف بالتساهل فيهما قرة بن عبد الرحمن ، قال يحيى بن معين : إنه كان يتساهل في السماع وفي الحديث ، وليس بكذاب .

[ ص: 106 ] والظاهر أن الرد بذلك ليس على إطلاقه ، وإلا فقد عرف جماعة من الأئمة المقبولين به ، فإما أن يكون لما انضم إليهم من الثقة وعدم المجيء بما ينكر ، وكلام أحمد الماضي قريبا يشهد له ، أو لكون التساهل يختلف ، فمنه ما يقدح ، ومنه ما لا يقدح .

وكذا من اختل ضبطه بحيث أكثر من القلب أو الإدراج ، أو رفع الموقوف ، أو وصل المرسل ( أو قبل التلقين ) الباطل ممن يلقنه إياه في الحديث إسنادا أو متنا ، وبادر إلى التحديث بذلك ولو مرة ; لدلالته على مجازفته وعدم تثبته وسقوط الوثوق بالمتصف به ، لا سيما وقد كان غير واحد يفعله اختبارا وتجربة لحفظ الراوي وضبطه وحذقه .

قال حماد بن زيد فيما رواه أبو يعلى في مسنده : لقنت سلمة بن علقمة حديثا ، فحدثني به ، ثم رجع فيه وقال : إذا أردت أن تكذب صاحبك ; أي : تعرف كذبه ، فلقنه .

وكذا قال قتادة : إذا أردت أن تكذب صاحبك فلقنه .

ومنهم من يفعله ليرويه بعد ذلك عمن لقنه ، وهذا من أعظم القدح في فاعله . قال عبدان الأهوازي : كان البغداديون ، كعبد الوهاب بن عطاء ، يلقنون المشايخ ، وكنت أمنعهم .

[ ص: 107 ] وكذا قال أبو داود : كان فضلك يدور على أحاديث أبي مسهر وغيره ، يلقنها هشام بن عمار ، يعني : بعد ما كبر ، بحيث كان كلما دفع إليه قرأه ، وكلما لقن تلقن ، ويحدثه بها .

قال : وكنت أخشى أن يفتق في الإسلام فتقا ، ولكن قد قال عبد الله بن محمد بن سيار : لما لمته على قبول التلقين ، قال : أنا أعرف حديثي ، ثم قال لي بعد ساعة : إن كنت تشتهي أن تعلم فأدخل إنسانا في شيء . فتفقدت الأسانيد التي فيها قليل اضطراب ، فسألته عنها ، فكان يمر فيها ، وكان أيضا يقول : قال الله تعالى : فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه .

ومن الأول ما وقع لحفص بن غياث ، فإنه لقي هو ويحيى القطان وغيرهما موسى بن دينار المكي ، فجعل حفص يضع له الحديث فيقول : حدثتك عائشة بنت طلحة عن عائشة بكذا وكذا ، فيقول : حدثتني عائشة ، ويقول له : وحدثك القاسم بن محمد عن عائشة بمثله ، فيقول : حدثني القاسم بن محمد عن عائشة بمثله ، أو يقول : حدثك سعيد بن جبير عن ابن عباس بمثله ، فيقول : حدثني سعيد بن جبير عن ابن عباس بمثله .

فلما فرغ حفص مد يده لبعض من حضر ممن لم يعلم المقصد ، وليست له نباهة ، فأخذ [ ص: 108 ] ألواحه التي كتب فيها ومحاها ، وبين له كذب موسى .

ومن الثاني من عمد من أصحاب الرأي إلى مسائل عن أبي حنيفة ، فجعلوا لها أسانيد عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس ، ووضعوها في كتب خارجة بن مصعب ، فصار يحدث بها في جماعة ممن كان يقبل التلقين . أفردوا بالتأليف ( أو قد وصفا ) من الأئمة ( ب ) رواية ( المنكرات ) أو الشواذ ( كثرة ) أي : حال كونها ذات كثرة .

( أو عرفا بكثرة السهو ) والغلط في روايته ، كما نص عليه الشافعي في الرسالة ، حال كونه حدث من حفظه ( وما حدث من أصل صحيح فهو ) أي : المتصف بشيء مما ذكر ( رد ) أي : مردود عندهم ; لأن الاتصاف بذلك كما قال ابن الصلاح يخرم الثقة بالراوي وضبطه . قال شعبة : لا يجيئك الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ .

وقيل له أيضا : من الذي نترك الرواية عنه ؟ قال : إذا أكثر من الرواية عن المعروف بما لا يعرف ، وأكثر الغلط .

وقال القاضي أبو بكر الباقلاني ، فيما حكاه الخطيب عنه : " من عرف بكثرة السهو والغلط وقلة الضبط رد حديثه " .

قال : وكذا يرد خبر من عرف بالتساهل في الحديث النبوي ، دون المتساهل في حديثه عن نفسه وأمثاله ، وما ليس بحكم في الدين ، يعني : لأمن الخلل فيه ، [ ص: 109 ] وتبعه غيره من الأصوليين فيه .

ويخالفه قول ابن النفيس : من تشدد في الحديث وتساهل في غيره فالأصح أن روايته ترد ، قال : لأن الظاهر أنه إنما تشدد في الحديث لغرض ، وإلا للزم التشدد مطلقا ، وقد يتغير ذلك الغرض أو يحصل بدون تشدد ، فيكذب - انتهى .

إلا أن يحمل على التساهل فيما هو حكم في الدين ، ولم ينفرد ابن النفيس بهذا ، بل سبقه إليه الإمام أحمد وغيره ; لأنه قد يجر إلى التساهل في الحديث ، وينبغي أن يكون محل الخلاف في تساهل لا يفضي إلى الخروج عن العدالة ، ولو فيما يكون به خارما للمروءة ، فاعلمه .

أما من لم يكثر شذوذه ولا مناكيره ، أو كثر ذلك مع تمييزه له وبيانه ، أو حدث مع اتصافه بكثرة السهو من أصل صحيح ، بحيث زال المحذور في تحديثه من حفظه فلا ، وكذا إذا حدث سيئ الحفظ عن شيخ عرف فيه بخصوصه بالضبط والإتقان ، كإسماعيل بن عياش ; حيث قبل في الشاميين خاصة دون غيرهم .

على أن بعض المتأخرين توقف في رد من كثرت المناكير وشبهها في حديثه ; لكثرة وقوع ذلك في حديث كثير من الأئمة ، ولم ترد روايتهم .

ولكن الظاهر أن المراد من كثر ذلك في رواياته مع ظهور إلصاق ذلك به لجلالة باقي رجال السند .

( ثم إن بين له ) بضم أوله ونون ساكنة مدغمة في اللام ; أي : الراوي الذي سها أو غلط ولو مرة ( غلطه فما رجع ) عن خطئه ، بل أصر عليه ( سقط [ ص: 110 ] عندهم ) أي : المحدثين ( حديثه ) ، بل مرويه ( جمع ) بضم الجيم وزن مضر . وممن صرح بذلك شعبة وغيره كما سيأتي آخر المقالة .

و ( كذا ) عبد الله بن الزبير ( الحميدي مع ابن حنبل ) الإمام أحمد ( وابن المبارك ) عبد الله وغيرهم ( رأوا ) إسقاط حديث المتصف بهذا ( في العمل ) احتجاجا ورواية ، حتى تركوا الكتابة عنه ( قال ) ابن الصلاح : ( وفيه نظر ) ، وكأنه لكونه قد لا يثبت عنده ما قيل له ، إما لعدم اعتقاده علم المبين له ، وعدم أهليته ، أو لغير ذلك ، قال : ( نعم ، إذا كان ) عدم رجوعه ( عنادا ) محضا ( منه ) ، لا حجة له فيه ، ولا مطعن عنده يبديه ، ف ( ما ينكر ذا ) أي : القول بسقوط رواياته وعدم الكتابة عنه .

ويرشد لذلك قول شعبة حين سأله ابن مهدي : من الذي تترك الرواية عنه ؟ ما نصه : إذا تمادى في غلط مجتمع عليه ، ولم يتهم نفسه عند اجتماعهم ، أو رجل يتهم بالكذب .

ونحوه قول ابن حبان : " من يبين له خطؤه ، وعلم فلم يرجع وتمادى في ذلك ، كان كذابا بعلم صحيح " .

قال التاج التبريزي : لأن المعاند كالمستخف بالحديث بترويج قوله بالباطل ، وأما إذا كان عن جهل فأولى بالسقوط ; لأنه ضم إلى جهله إنكاره الحق .

وكان هذا فيمن يكون في نفسه جاهلا مع اعتقاده علم من أخبره .

التالي السابق


الخدمات العلمية