الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : ( بغى بعضنا على بعض ) أي تعدى وخرج عن الحد ، يقال بغى الجرح إذا أفرط وجعه وانتهى إلى الغاية ، ويقال : بغت المرأة إذا زنت ، لأن الزنا كبيرة منكرة ، قال تعالى : ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ) [النور : 33] ثم قال : ( فاحكم بيننا بالحق ) معنى الحكم إحكام الأمر في إمضاء تكليف الله عليهما في الواقعة ، ومنه حكمة الدابة لأنها تمنع من الجماح ، ومنه بناء محكم إذا كان قويا ، وقوله : ( بالحق ) أي بالحكم الحق وهو الذي حكم الله به ( ولا تشطط ) يقال شط الرجل إذا بعد ، ومنه قوله : شطت الدار إذا بعدت ، قال تعالى : ( لقد قلنا إذا شططا ) [الكهف : 14] أي قولا بعيدا عن الحق ، فقوله : ( ولا تشطط ) أي لا تبعد في هذا الحكم عن الحق ، ثم قال : ( واهدنا إلى سواء الصراط ) وسواء الصراط هو وسطه ، قال تعالى : ( فاطلع فرآه في سواء الجحيم ) [الصافات : 55] ووسط الشيء أفضله وأعدله ، قال تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) [البقرة : 143] وأقول إنهم عبروا عن المقصود الواحد بثلاث عبارات :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : قولهم فاحكم بالحق .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قولهم : ( ولا تشطط ) وهي نهي عن الباطل .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قولهم : ( واهدنا إلى سواء الصراط ) يعني يجب أن يكون سعيك في إيجاد هذا الحق . وفي الاحتراز عن هذا الباطل أن تردنا من الطريق الباطل إلى الطريق الحق ، وهذا مبالغة تامة في تقرير المطلوب ، واعلم أنهم لما أخبروا عن وقوع الخصومة على سبيل الإجمال أردفوه ببيان سبب تلك الخصومة على سبيل التفصيل ، فقال : ( إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قال صاحب " الكشاف " ( أخي ) بدل من هذا أو خبر لقوله : ( إن ) والمراد أخوة الدين أو أخوة الصداقة والألفة أو أخوة الشركة والخلطة ، لقوله تعالى : ( وإن كثيرا من الخلطاء ) وكل واحدة من هذه الأخوات توجب الامتناع من الظلم والاعتداء .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال صاحب " الكشاف " قرئ " تسع وتسعون " بفتح التاء و" نعجة " بكسر النون ، وهذا من اختلاف اللغات نحو نطع ونطع ، ولقوة ولقوة وهي الأنثى من العقبان .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قال الليث : النعجة الأنثى من الضأن والبقرة الوحشية والشاة الجبلية ، والجمع النعجات ، والعرب جرت عادتهم بجعل النعجة والظبية كناية عن المرأة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قرأ عبد الله : "تسع وتسعون نعجة أنثى" وهذا يكون لأجل التأكيد كقوله تعالى : ( وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد ) [ النحل : 51 ] ، ثم قال : ( أكفلنيها وعزني في الخطاب ) قال [ ص: 172 ] صاحب " الكشاف " : ( أكفلنيها ) حقيقته اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي ( وعزني ) غلبني ، يقال عزه يعزه ، والمعنى جاءني بحجاج لم أقدر أن أورد عليه ما أورده به ، وقرئ وعازني من المعازة ، وهي المغالبة ، واعلم أن الذين قالوا إن هذين الخصمين كانا من الملائكة زعموا أن المقصود من ذكر النعاج التمثيل ، لأن داود كان تحته تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأوريا إلا امرأة واحدة ، فذكرت الملائكة تلك الواقعة على سبيل الرمز والتمثيل .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ) أي : سؤال إضافة نعجتك إلى نعاجه ، وروي أنه قال له : إن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا ، وأشار إلى الأنف والجبهة ، فقال : يا داود أنت أحق أن نضرب منك هذا وهذا ، وأنت فعلت كيت وكيت ، ثم نظر داود فلم ير أحدا فعرف الحال ، فإن قيل كيف جاز لداود أن يحكم على أحد الخصمين بمجرد قول خصمه ؟ قلنا : ذكروا فيه وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قال محمد بن إسحاق : لما فرغ الخصم الأول من كلامه نظر داود إلى الخصم الذي لم يتكلم ، وقال لئن صدق لقد ظلمته ، والحاصل أن هذا الحكم كان مشروطا بشرط كونه صادقا في دعواه .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : قال ابن الأنباري : لما ادعى أحد الخصمين اعترف الثاني فحكم داود عليه السلام ولم يذكر الله تعالى ذلك الاعتراف لدلالة ظاهر الكلام عليه ، كما تقول : أمرتك بالتجارة فكسبت تريد اتجرت فكسبت ، وقال تعالى : ( أن اضرب بعصاك البحر فانفلق ) [الشعراء : 63] أي فضرب فانفلق .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أن يكون التقدير أن الخصم الذي هذا شأنه يكون قد ظلمك .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض ) قال الليث : خليط الرجل مخالطه ، وقال الزجاج : الخلطاء الشركاء ، فإن قيل : لم خص داود الخلطاء ببغي بعضهم على بعض مع أن غير الخلطاء قد يفعلون ذلك ؟ والجواب : لا شك أن المخالطة توجب كثرة المنازعة والمخاصمة ، وذلك لأنهما إذا اختلطا اطلع كل واحد منهما على أحوال الآخر ، فكل ما يملكه من الأشياء النفيسة إذا اطلع عليه عظمت رغبته فيه ، فيفضي ذلك إلى زيادة المخاصمة والمنازعة ، فلهذا السبب خص داود عليه السلام الخلطاء بزيادة البغي والعدوان ، ثم استثنى عن هذا الحكم الذين آمنوا وعلموا الصالحات لأن مخالطة هؤلاء لا تكون إلا لأجل الدين وطلب السعادات الروحانية الحقيقية ، فلا جرم مخالطتهم لا توجب المنازعة ، وأما الذين تكون مخالطتهم لأجل حب الدنيا لا بد وأن تصير مخالتطهم سببا لمزيد البغي والعدوان ، واعلم أن هذا الاستثناء يدل على أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يبغي بعضهم على بعض ، فلو كان داود عليه السلام قد بغى وتعدى على ذلك الرجل لزم بحكم فتوى داود أن لا يكون من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ومعلوم أن ذلك باطل ، فثبت أن قول من يقول المراد من واقعة النعجة قصة داود قوله باطل .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية