الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : الفلك ماذا ؟ نقول الجسم المستدير أو السطح المستدير أو الدائرة ؛ لأن أهل اللغة اتفقوا على أن فلكة المغزل سميت فلكة لاستدارتها ، وفلكة الخيمة هي الخشبة المسطحة المستديرة التي توضع على رأس العمود لئلا يمزق العمود الخيمة وهي صفحة مستديرة ، فإن قيل : فعلى هذا تكون السماء مستديرة . وقد اتفق أكثر المفسرين على أن السماء مبسوطة ليس لها أطراف على جبال ، وهي كالسقف المستوي ، ويدل عليه قوله تعالى : ( والسقف المرفوع ) ( الطور : 5 ) نقول : ليس في النصوص ما يدل دلالة قاطعة على كون السماء مبسوطة غير مستديرة ، ودل الدليل الحسي على كونها مستديرة ، فوجب المصير إليه .

                                                                                                                                                                                                                                            أما الأول فظاهر ؛ لأن السقف المقبب لا يخرج من كونه سقفا ، وكذلك كونها على جبال .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الدليل الحسي فوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : إن من أمعن في السير في جانب الجنوب يظهر له كواكب مثل سهيل وغيره ظهورا أبديا حتى أن من يرصد يراه دائما ويخفى عليه بنات نعش وغيرها خفاء أبديا ، ولو كان السماء مسطحا مستويا لبان الكل للكل بخلاف ما إذا كان مستديرا ، فإن بعضه حينئذ يستتر بأطراف الأرض فلا يرى .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : هو أن الشمس إذا كانت مقارنة للحمل مثلا ، فإذا غربت ظهر لنا كوكب في منطقة البروج من الحمل إلى الميزان ، ثم في قليل يستتر الكوكب الذي كان غروبه بعد غروب الشمس ويظهر الكوكب الذي كان طلوعه بعد طلوع الشمس وبالعكس هو دليل ظاهر ، وإن بحث فيه يصير قطعيا .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : هو أن الشمس قبل طلوعها وبعد غروبها يظهر ضوؤها ويستنير الجو بعض الاستنارة ثم يطلع ، ولولا أن بعض السماء مستتر بالأرض وهو محل الشمس ، فلا يرى جرمها وينتشر نورها لما كان كذا ، بل كان عند إعادتها إلى السماء يظهر لكل أحد جرمها ونورها معا لكون السماء مستوية حينئذ مكشوفة كلها لكل أحد .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : القمر إذا انكسف في ساعة من الليل في جانب الشرق ، ثم سئل أهل الغرب عن وقت الكسوف أخبروا عن الخسوف في ساعة أخرى قبل تلك الساعة التي رأى أهل المشرق فيها الخسوف ، لكن الخسوف في وقت واحد في جميع نواحي العالم ، والليل مختلف ، فدل على أن الليل في جانب المشرق قبل الليل في جانب المغرب ، فالشمس غربت من عند أهل المشرق وهي بعد في السماء ظاهرة لأهل المغرب ، فعلم استتارها بالأرض ولو كانت مستوية لما كان كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : لو كانت السماء مبسوطة لكان القمر عندما يكون فوق رؤوسنا على المسامتة أقرب إلينا ، وعندما يكون على الأفق أبعد منا ؛ لأن العموم أصغر من القطر والوتد ، وكذلك في الشمس والكواكب كان يجب أن يرى أكبر ؛ لأن القريب يرى أكبر ، وليس كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : [ ص: 67 ] جاز أن يكون ، وهو على الأفق على سطح السماء ، وعندما يكون على مسامتة رؤوسنا في بحر السماء غائرا فيها ؛ لأن الخرق جائز على السماء ، نقول : لا تنازع في جواز الخرق ، لكن القمر حينئذ تكون حركته في دائرة لا على خط مستقيم ، وهو غرضنا ؛ ولأنا نقول : لو كان كذلك لكان القمر عند أهل المشرق ، وهو في منتصف نهارهم أكبر مقدارا لكونه قريبا من رؤوسهم ضرورة فرضه على سطح السماء الأدنى ، وعندنا في بحر السماء ، وبالجملة الدلائل كثيرة ، والإكثار منها يليق بكتب الهيئة التي الغرض منها بيان ذلك العلم ، وليس الغرض في التفسير بيان ذلك غير أن القدر الذي أوردناه يكفي في بيان كونه فلكا مستديرا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : هذا يدل على أن لكل كوكب فلكا ، فما قولك فيه ؟ نقول : أما السبعة السيارة فلكل فلك ، وأما الكواكب الأخر فقيل للكل : فلك واحد ، ولنذكر كلاما مختصرا في هذا الباب من الهيئة حيث وجب الشروع بسبب تفسير الفلك ، فنقول : قيل : إن للقمر فلكا ؛ لأن حركته أسرع من حركة الستة الباقية ، وكذلك لكل كوكب فلك لاختلاف سيرها بالسرعة والبطء والممر ، فإن بعضها يمر في دائرة وبعضها في دائرة أخرى حتى في بعض الأوقات يمر بعضها ببعض ولا يكسفه وفي بعض الأوقات يكسفه ، فلكل كوكب فلك ، ثم أهل الهيئة قالوا : فكل فلك هو جسم كرة ، وذلك غير لازم ، بل اللازم أن نقول : لكل فلك هو كرة أو صفحة أو دائرة يفعلها الكوكب بحركته ، والله تعالى قادر على أن يخلق الكوكب في كرة يكون وجوده فيها كوجود مسمار مغرق في ثخن كرة مجوفة ، ويدير الكرة فيدور الكوكب بدوران الكرة ، وعلى مذهب أرباب الهيئة حركة الكواكب السيارة على هذا الوجه ، وكذلك قادر على أن يخلق حلقة يحيط بها أربع سطوح متوازية بها فإنها أربع دوائر متوازية كحجر الرحى إذا قورناه وأخرجنا من وسطه طاحونة من طواحين اليد ، ويبقى منه حلقة يحيط بها سطوح ودوائر كما ذكرنا ، وتكون الكواكب فيه وهو فلك ، فتدور تلك الحلقة وتدير الكوكب ، والحركة على هذا الوجه وإن كانت مقدورة لكن لم يذهب إليه أحد ممن يعتبر ، وكذلك هو قادر على أن يجعل الكواكب بحيث تشق السماء ، فتجعل دائرة متوهمة ، كما لو فرضت سمكة في الماء على وجهين تنزل من جانب وتصعد إلى موضع من الجانب الآخر على استدارة ، وهذا هو المفهوم من قوله تعالى : ( وكل في فلك يسبحون ) والظاهر أن حركة الكواكب على هذا الوجه ، وأرباب الهيئة أنكروا ذلك ، وقالوا : لا تجوز الحركة على هذا الوجه ؛ لأن الكوكب له جرم ، فإذا شق السماء وتحرك ، فإما أن يكون موضع دورانه ينشق ويلتئم كالماء تحركه السمكة أو لا ينشق ولا يلتئم ، بل هناك خلاء يدور الكوكب فيه ، لكن الخلاء محال ، والسماء لا تقبل الشق والالتئام ، هذا ما اعتمدوا عليه ، ونحن نقول : كلاهما جائز .

                                                                                                                                                                                                                                            أما الخلاء لا يحتاج إليه ههنا ، لأن قوله تعالى : ( يسبحون ) يفهم منه أنه بشق والتئام ، وأما امتناع الشق والالتئام فلا دليل لهم عليه ، وشبهتهم في المحدد للجهات وهي هناك ضعيفة ، ثم إنهم قالوا على ما بينا : تخرج الحركات وبه علمنا الكسوفات ، ولو كان لها حركات مختلفة لما وجب الكسوف في [ ص: 68 ] الوقت الذي يحكم فيه بالكسوف والخسوف ؛ وذلك لأنا نقول للشمس فلكان أحدهما مركزه مركز العالم ، ثانيهما مركزه فوق مركز العالم وهو مثل بياض البيض بين صفرته وبين القيض والشمس كرة في الفلك الخارج المركز تدور بدورانه في السنة دورة ، فإذا جعلت في الجانب الأعلى تكون بعيدة عن الأرض ، فيقال : إنها في الأوج ، وإذا حصلت في الجانب الأسفل تكون قريبة من الأرض ، فتكون في الحضيض ، وأما القمر فله فلك شامل لجميع أجزائه وأفلاكه ، وفلك آخر هو بعض من الفلك الأول محيط به كالقشرة الفوقانية من البصلة ، وفلك ثالث في الفلك التحتاني كما كان في الفلك الخارج المركز في فلك الشمس ، وفي الفلك الخارج المركز كرة مثل جرم الشمس ، وفي الكرة القمر مركوز كمسمار في كرة مغرق فيها ، ويسمى الفلك الفوقاني الجوزهر والخارج المركز الفلك الحامل والفلك التحتاني الذي فيه الفلك الحامل الفلك المائل ، والكرة التي في الحامل تسمى فلك التدوير ، وكذلك قالوا في الكواكب الخمسة الباقية من السيارات غير أن الفوقاني الذي سموه الجوزهر لم يثبتوه لها فأثبتوا أربعة وعشرين فلكا : الفلك الأعلى وفلك البروج ، ولزحل ثلاثة أفلاك ، الممثل والحامل وفلك التدوير ، وللمشتري ثلاثة كما لزحل ، وللمريخ كذلك ثلاثة ، وللشمس فلكان الممثل والخارج والمركز ، وللزهرة ثلاثة أفلاك كما للعلويات ، ولعطارد أربعة أفلاك الثلاثة التي ذكرناها في العلويات ، وفلك آخر يسمونه المدير ، وللقمر أربعة أفلاك والرابع يسمونه فلك الجوزهر ، والمدير ليس كالجوزهر ؛ لأن المدير غير محيط بأفلاك عطارد وفلك الجوزهر محيط ، ومنهم من زاد في الخمسة في كل فلك فلكين آخرين وجعل تدويراتها مركبة من ثلاثة أفلاك ، وقالوا : إن بسبب هذه الأجرام تختلف حركات الكواكب ، ويكون لها عروض ورجوع واستقامة وبطء وسرعة .

                                                                                                                                                                                                                                            وهذا كلامهم على سبيل الاقتناص والاقتصار ، ونحن نقول : لا يبعد من قدرة الله خلق مثل ذلك ، وأما على سبيل الوجوب ، فلا نسلم ورجوعها واستقامتها بإرادة الله ، وكذلك عرضها وطولها وبطؤها وسرعتها وقربها وبعدها ، هذا تمام الكلام .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : قال المنجمون : الكواكب أحياء بدليل أنه تعالى قال : ( يسبحون ) وذلك لا يطلق إلا على العاقل ، نقول : إن أردتم القدر الذي يصح به التسبيح ، فنقول به لأنه ما من شيء من هذه الأشياء إلا وهو يسبح بحمد الله ، وإن أردتم شيئا آخر فلم يثبت ذلك ، والاستعمال لا يدل كما في قوله تعالى في حق الأصنام : ( ما لكم لا تنطقون ) ( الصافات : 92 ) وقوله : ( ما أنكم تنطقون ) ( الذاريات : 23 ) .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية