الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                الحديث الثالث :

                                قال :

                                536 561 - حدثنا المكي بن إبراهيم : ثنا يزيد بن أبي عبيد ، عن سلمة ، قال : كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المغرب إذا توارت بالحجاب .

                                التالي السابق


                                هذا [أحد] ثلاثيات البخاري ، والضمير يعود إلى غير مذكور ، وهو الشمس ، وقرينة صلاة المغرب تدل عليه ، وهو كقوله تعالى في قصة سليمان : إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب فحذف ذكر الشمس لدلالة [ ص: 161 ] العشي عليها ، والمعني بتواريها بالحجاب : تواري قرصها عن أعين الناظرين ، بما حجبها عنها من الأرض .

                                وخرج مسلم حديث سلمة ، ولفظه : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب .

                                وخرجه أبو داود ، ولفظه : كان يصلي ساعة تغرب الشمس ، إذا غاب حاجبها .

                                وهذا الحديث والذي قبله يدلان على أن مجرد غيبوبة القرص يدخل به وقت صلاة المغرب ، كما يفطر الصائم بذلك ، وهذا إجماع من أهل العلم ، حكاه ابن المنذر وغيره .

                                قال أصحابنا والشافعية وغيرهم : ولا عبرة ببقاء الحمرة الشديدة في السماء بعد سقوط قرص الشمس وغيبوبته عن الأبصار .

                                ومنهم من حكى رواية عن أحمد باعتبار غيبوبة هذه الحمرة ، وبه قال الماوردي من الشافعية . ولا يصح ذلك .

                                وأما إن بقي شيء من شعاعها على الجدران أو تلك الجبال فلا بد من ذهابه .

                                وحكى الطحاوي عن قوم ، أنهم اعتبروا مع مغيب الشمس طلوع النجم ، ولم يسمهم .

                                والظاهر : أنه قول طائفة من أهل البدع كالروافض ونحوهم ، ولم يقل ذلك أحد من العلماء المعتد بهم .

                                وروى أبو نعيم الفضل بن دكين : ثنا إسرائيل ، عن طارق ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كتب عمر إلى أمراء الأمصار : لا تصلوا المغرب حتى تشتبك النجوم .

                                [ ص: 162 ] وهذا إنما يدل على استحباب ذلك ، وقد روي عن عمر خلاف ذلك موافقة لجمهور الصحابة .

                                والأحاديث والآثار في كراهة التأخير حتى يطلع النجم كثيرة جدا :

                                ومن أجودها : ما روى ابن إسحاق : ثنا يزيد بن أبي حبيب ، عن مرثد بن عبد الله ، قال : قدم علينا أبو أيوب غازيا وعقبة بن عامر يومئذ على مصر ، فأخر المغرب ، فقام إليه أبو أيوب ، فقال له : ما هذه الصلاة يا عقبة ؟ قال : شغلنا . قال : أما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( لا تزال أمتي بخير - أو قال : على الفطرة - ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم ) ؟

                                خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن خزيمة في ( صحيحه ) والحاكم وصححه .

                                وقد خولف ابن إسحاق في إسناده ، فرواه حيوة بن شريح ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أسلم أبي عمران ، عن أبي أيوب ، قال : كنا نصلي المغرب حين تجب الشمس .

                                ورواه ابن لهيعة ، عن يزيد ، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

                                وقال أبو زرعة : حديث حيوة أصح .

                                وخرج الإمام أحمد معناه من حديث السائب بن يزيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                وخرجه ابن ماجه من حديث العباس بن عبد المطلب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                [ ص: 163 ] وقد روي عن عمر بن عبد العزيز ، أنه أخر ليلة المغرب حتى طلع نجمان ، فأعتق رقبتين كفارة لتأخيره .

                                فأما الحديث الذي خرجه مسلم من حديث أبي بصرة الغفاري ، قال : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العصر ، فقال : ( إن هذه الصلاة عرضت على من قبلكم فضيعوها ، فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين ، ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد ) ، والشاهد النجم .

                                فقد اختلف العلماء في تأويله :

                                فمنهم من حمله على كراهة التنفل قبل المغرب حتى تصلى ، وهو قول من كره ذلك من العلماء ، وقال : قوله : ( لا صلاة بعدها ) إنما هو نهي عن التنفل بعد العصر فيستمر النهي حتى تصلى المغرب ، فإذا فرغ منها حينئذ جاز التنفل ، وحينئذ تطلع النجوم غالبا .

                                ومنهم من قال : إنما أراد أن النهي يزول بغروب الشمس ، وإنما علقه بطلوع الشاهد لأنه مظنة له ، والحكم يتعلق بالغروب نفسه .

                                ومنهم من زعم أن الشاهد نجم خفي يراه من كان حديد البصر بمجرد غروب الشمس ، فرؤيته علامة لغروبها .

                                وزعم بعضهم : أن المراد بالشاهد الليل ، وفيه بعد .

                                وقد أجمع العلماء على أن تعجيل المغرب في أول وقتها أفضل ، ولا خلاف في ذلك مع الصحو في الحضر ، إلا ما روي عن عمر كما تقدم ، وروي عنه خلافه من وجوه .

                                فأما في الغيم ففيه اختلاف سبق ذكره ، وأما في السفر فيستحب تأخيرها ليلة النحر بالمزدلفة من دفع من عرفة حتى يصليها مع العشاء بالمزدلفة كما فعل [ ص: 164 ] النبي صلى الله عليه وسلم .

                                وفي صحة صلاتها في طريقه قبل وصوله إلى المزدلفة اختلاف يذكر في موضع آخر - إن شاء الله .

                                وأما في غير تلك الليلة في السفر فيجوز تأخيرها للجمع بينها وبين العشاء .

                                وقال مالك : يصلي المقيم المغرب إذا غربت الشمس ، والمسافر لا بأس أن يمد ميلا ثم ينزل فيصلي .

                                وقد روي ذلك عن ابن عمر . وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا .

                                وكذلك رخص الثوري في تأخيرها في السفر دون الحضر ، وقال : كانوا يكرهون تأخيرها [في الحضر دون السفر] .

                                وهل يستحب أن يفصل بين أذان المغرب وإقامتها بجلسة خفيفة ؟ فيه قولان :

                                أحدهما : يستحب ، وهو قول النخعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبي يوسف ومحمد .

                                وقال أبو حنيفة : يفصل بينهما بسكتة بقدر ثلاث آيات قائما ; لأن مبناها على التعجيل ، والقائم أقرب إليه ، فإن وصل الإقامة بالأذان كره عنده .

                                والقول الثاني : لا يستحب الفصل بجلوس ولا غيره ; لأن وقتها مضيق ، وهو قول مالك .

                                وقال أحمد : الفصل بينهما بقدر ركعتين كما كانوا يصلون الركعتين في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الأذان والإقامة للمغرب . كما سيأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى .

                                [ ص: 165 ] وعند الشافعي وأصحابه : يفصل بينهما فصلا يسيرا بقعدة أو سكوت ونحوهما .



                                الخدمات العلمية