الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم قال تعالى : الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى الآية : قال الأستاذ الإمام : إن هذه الآية لبيان ثواب الإنفاق في الآخرة بعد التنويه بمنفعته في الدنيا ، وقد شرط لهذا الثواب ترك المن والأذى ; فأما المن فهو أن يذكر المحسن إحسانه لمن أحسن هو إليه يظهر به تفضله عليه ، وأما الأذى فهو أعم ، ومنه أن يذكر المحسن إحسانه لغير من أحسن عليه بما يكون أشد عليه مما لو ذكره له . وقال غيره : المن أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه ، يريد أنه أوجب بذلك عليه حقا . والأذى أن يتطاول عليه بسبب إنعامه عليه . قالوا : وإنما قدم المن لكثرة وقوعه وتوسيط كلمة " لا " للدلالة على شمول النفي بإفادة أن كلا من المن والأذى كاف وحده لإحباط العمل . وعدم استحقاق الثواب على الإنفاق ، وقالوا : إن العطف بثم لإظهار علو رتبة المعطوف عليه .

                          وقال الأستاذ الإمام : قد يشكل على بعض الناس التعبير بثم التي تفيد التراخي مع العلم بأن المن أو الأذى العاجل أضر وأجدر بأن يجعل تركه شرطا لتحصيل الأجر . وجوابه : أن من يقرن النفقة بالمن والأذى أو يتبعها أحدهما أو كليهما عاجلا لا يستحق أن يدخل في الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله أو يوصف بالسخاء المحمود عند الله . وإذا كان من يمن أو يؤذي بعد الإنفاق بزمن بعيد لا يعتد الله بإنفاقه ولا يأجره عليه ولا يقيه الخوف والحزن ، أفلا يكون المتعجل به أجدر بذلك ؟ بلى ، وإنما الكلام في السخي الذي ينفق في سبيل الله مخلصا متحريا للمصلحة والمنفعة لا باغيا جزاء ممن ينفق عليه ولا مكافأة ، ولكنه قد يعرض له بعد ذلك ما يحمله على المن والأذى المحبطين للأجر ، كأن يرى ممن كان أنفق عليه غمطا لحقه أو إعراضا عنه وتركا لما كان من احترامه إياه ، فيثير بذلك غضبه حتى يمن أو يؤذي ، ومثل هذا يقع من المخلصين فحذرهم الله - تعالى - منه .

                          وأنت ترى ما قاله الأستاذ الإمام هو الظاهر ، وقد مثل له بالصدقة على الأفراد بما يصنع مثله في الإنفاق في المصالح . ويشهد لذلك ما قاله ابن جرير في الآية فإنه حمل الإنفاق فيها على إعانة المجاهدين ، وصور المن والأذى بالانتقاد عليهم ورميهم بالتقصير في جهادهم وكونهم لم يقوموا بالواجب عليهم ثم قال : " وإنما شرط ذلك في المنفق في سبيل الله وأوجب الأجر لمن كان غير مان ولا مؤذ من أنفق عليه في سبيل الله ; لأن النفقة في سبيل الله مما ابتغي [ ص: 53 ] به وجه الله وطلب به ما عنده . فإذا كان معنى النفقة في سبيل الله هو وصفنا فلا وجه لمن المنفق على من أنفق عليه ; لأنه لا يد له قبله ولا صنيعة يستحق بها عليه - إن لم يكافئه عليه - المن والأذى إذا كانت نفقة ما أنفق عليه احتسابا وابتغاء ثواب الله وطلب مرضاته وعلى الله مثوبته دون من أنفق عليه " اهـ . وهو يلتقي مع كلام الأستاذ الإمام في أن المن في الآية قد يقع متراخيا عن وقت الإنفاق ولكن تخصيصه ذلك بالإنفاق على المجاهدين مما لا دليل عليه . وقوله - تعالى - : لهم أجرهم عند ربهم يشعر بأن هذا الأجر عظيم . من رب قادر كريم ، فقد أضافهم إليه تشريفا لهم وإعلاء لشأنهم ولا خوف عليهم يوم يخاف الناس وتفزعهم الأهوال ولا هم يحزنون يوم يحزن البخلاء الممسكون عن الإنفاق في سبيل الله والمبطلون لصدقاتهم بالمن والأذى ، بل هم أهل الأمن والطمأنينة والسرور الدائم والسكينة ، وقد تقدم الخوف والحزن من قبل .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية