الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 414 ] الحديث الثاني :

                                725 759 - ثنا أبو نعيم ، ثنا شيبان ، عن يحيى ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين ، يطول في الأولى ويقصر في الثانية ، ويسمع الآية أحيانا ، وكان يقرأ في العصر بفاتحة الكتاب وسورتين ، وكان يطول في الأولى ، وكان يطول في الركعة الأولى من صلاة الصبح ، ويقصر في الثانية .

                                التالي السابق


                                في هذا الحديث دليل على استحباب القراءة في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر والعصر بسورة سورة مع الفاتحة ، وهذا متفق على استحبابه بين العلماء ، وفي وجوبه خلاف سبق ذكره .

                                وفيه أن عادة النبي صلى الله عليه وسلم كانت القراءة بسورة تامة ، وهذا هو الأفضل بالاتفاق ؛ فإن قرأ السورة في ركعتين لم يكره - أيضا - ، وقد فعله أبو بكر الصديق .

                                قال الزهري : أخبرني أنس ، أن أبا بكر صلى بهم صلاة الفجر ، فافتتح بهم سورة البقرة ، فقرأها في ركعتين ، فلما سلم قام إليه عمر ، فقال : ما كنت تفرغ حتى تطلع الشمس ، قال : لو طلعت لألفتنا غير غافلين .

                                ورخص فيه سعيد بن جبير وقتادة وأحمد ، ولا نعلم فيه خلافا إلا رواية عن مالك ، وسيأتي حديث قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالأعراف في ركعتين من المغرب .

                                وفي ( صحيح مسلم ) عن عبد الله بن السائب ، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الفجر ، فافتتح بسورة المؤمنين ، حتى أتى عليه ذكر موسى وهارون ، [ ص: 415 ] فأخذته سعلة فركع .

                                وكذلك لو قرأ في ركعة بسورة وفي أخرى ببعض سورة ، وقد روي عن عمر وابن مسعود .

                                وإن قرأ في الركعتين ببعض سورة إما من أوائلها ، أو أواسطها ، أو أواخرها ، ففي كراهته خلاف عن أحمد ، وسنذكره فيما بعد - إن شاء الله سبحانه وتعالى - ؛ فإن البخاري أشار إلى هذه المسائل .

                                وليس في حديث أبي قتادة تعيين السورتين المقروء بهما في الظهر والعصر ، وقد ورد تعيين السور ، وتقدير قراءته في أحاديث أخر .

                                فخرج مسلم من حديث أبي سعيد الخدري ، قال : كنا نحزر قيام رسول الله ، في الظهر والعصر ، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر قراءة الم تنزيل السجدة ، وحزرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذلك ، وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر قدر قيامه من الأخريين في الظهر ، وفي الأخريين من العصر على النصف من ذلك .

                                وفي رواية له أيضا : كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية ، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية - أو قال : نصف ذلك - وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر قراءة خمس عشرة ، وفي الأخريين قدر نصف ذلك .

                                وخرجه الإمام أحمد وابن ماجه عن أبي سعيد ، قال : اجتمع ثلاثون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : تعالوا حتى نقيس قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم [ ص: 416 ] يجهر به من الصلاة ، فما اختلف منهم رجلان ، فقاسوا قراءته في الركعة الأولى من الظهر بقدر ثلاثين آية ، وفي الركعة الأخرى بقدر النصف من ذلك ، وقاسوا ذلك في صلاة العصر على قدر النصف من الركعتين الأخريين من الظهر .

                                وفي إسناده : زيد العمي ، وفيه مقال .

                                وخرج مسلم - أيضا - من حديث جابر بن سمرة ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى ، وفي العصر نحو ذلك ، وفي الصبح أطول من ذلك .

                                وفي رواية : كان يقرأ في الظهر سبح اسم ربك الأعلى

                                وخرجه أبو داود والترمذي والنسائي ، وعندهم : كان يقرأ في الظهر والعصر بالسماء ذات البروج ، والسماء والطارق ، وشبهها .

                                وقد سبق حديث عمران بن حصين ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، صلى بهم الظهر والعصر ، ثم قال : ( أيكم قرأ خلفي ب : سبح اسم ربك الأعلى ؟ ) قال رجل : أنا ، قال : ( قد علمت أن بعضكم خالجنيها ) .

                                خرجه مسلم أيضا .

                                وخرج النسائي وابن ماجه من حديث البراء بن عازب ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا الظهر ، فنسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات .

                                وخرج النسائي من حديث أنس ، أنه صلى بهم الظهر ، قال : إني [ ص: 417 ] صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر ، فقرأ لنا بهاتين السورتين في الظهر : سبح اسم ربك الأعلى و : هل أتاك حديث الغاشية

                                وذكر الترمذي - تعليقا - أن عمر كتب إلى أبي موسى ، يأمره أن يقرأ بأوساط المفصل .

                                وهو قول طائفة من أصحابنا .

                                وقال إسحاق : الظهر تعدل في القراءة بالعشاء ، لكنه يقول : إن الظهر يقرأ فيها بنحو الثلاثين آية .

                                وحديث جابر بن سمرة الذي خرجه مسلم كما تقدم يدل على أن قراءة الظهر أقصر من قراءة الصبح .

                                وقال طائفة : يقرأ في الظهر بطوال المفصل كالصبح ، وهو قول الثوري والشافعي وطائفة من أصحابنا كالقاضي أبي يعلى في ( جامعه الكبير ) ، لكنه خصه بالركعة الأولى من الظهر .

                                وروى وكيع بإسناده ، عن عمر ، أنه قرأ في الظهر ب : ق والذاريات

                                وعن عبد الله بن عمرو ، أنه قرأ في الظهر ب : كهيعص

                                وروى حرب بإسناده ، عن ابن عمر ، أنه كان يقرأ في الظهر ب : ق والذاريات

                                وخرجه ابن جرير ، وعنده : ب : ق والنازعات

                                قال : وكان عمر يقرأ ب : ق

                                وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه [ ص: 418 ] كان يقرأ في الظهر ب : الذين كفروا و : إنا فتحنا لك

                                وممن رأى استحباب القراءة في الظهر بقدر ثلاثين آية : إبراهيم النخعي والثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق .

                                وقال الثوري وإسحاق : كانوا يستحبون أن يقرأوا في الظهر قدر ثلاثين في الركعة الأولى ، وفي الثانية بنصفها ، زاد إسحاق : أو أكثر .

                                وظاهر كلام أحمد وفعله يدل على أن المستحب أن يقرأ في الصبح والظهر في الركعة الأولى من طوال المفصل ، وفي الثانية من وسطه .

                                وروي عن خباب بن الأرت ، أنه قرأ في الظهر ب : إذا زلزلت

                                قال أبو بكر الأثرم : الوجه في اختلاف الأحاديث في القراءة في الظهر أنه كله جائز ، وأحسنه استعمال طول القراءة في الصيف ، وطول الأيام ، واستعمال التقصير في القراءة في الشتاء وقصر الأيام ، وفي الأسفار ، وذلك كله معمول به . انتهى .

                                ومن الناس من حمل اختلاف الأحاديث في قدر القراءة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يراعي أحوال المأمومين ، فإذا علم أنهم يؤثرون التطويل طول ، أو التخفيف خفف ، وكذلك إذا عرض له في صلاته ما يقتضي التخفيف ، مثل أن يسمع بكاء صبي مع أمه ، ونحو ذلك .

                                وفي حديث أبي قتادة : يطول الركعة الأولى على الثانية .

                                وقد ذهب إلى القول بظاهره في استحباب تطويل الركعة الأولى على ما بعدها من جميع الصلوات طائفة من العلماء ، منهم : الثوري وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن ، وطائفة من أصحاب الشافعي ، وروي عن عمر رضي الله عنه .

                                وقد خرج الإمام أحمد وأبو داود حديث أبي قتادة ، وزاد فيه : فظننا أنه [ ص: 419 ] يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى .

                                وخرج مسلم من حديث أبي سعيد الخدري ، قال : لقد كانت صلاة الظهر تقام ، فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ، ثم يتوضأ ، ثم يأتي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى ؛ مما يطولها .

                                وقد سبق حديث أبي سعيد الذي خرجه مسلم ، أن قراءته في الثانية كانت على النصف من قراءته في الأولى .

                                وخرج الإمام أحمد من حديث شهر بن حوشب ، عن أبي مالك الأشعري ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسوي بين الأربع ركعات في القراءة والقيام ، ويجعل الركعة الأولى هي أطولهن ، لكي يثوب الناس .

                                وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : لا يطيل سوى الركعة من الفجر ؛ لأنه وقت غفلة ونوم ، ويسوي بين الركعات في سائر الصلوات .

                                وقال مالك والشافعي : يسوي بين الركعتين الأولتين في جميع الصلوات .

                                واستدل لذلك بقول سعد : ( أركد في الأوليين ) ، وليس بصريح ولا ظاهر في التسوية بينهما .

                                واستدل أيضا بحديث أبي سعيد ، أنهم حزروا قيام النبي صلى الله عليه وسلم في الظهر في الركعتين الأوليين قدر قراءة ثلاثين آية ، وقد سبق .

                                ولكن في رواية أحمد وابن ماجه : أن قيامه في الثانية كان على النصف من ذلك ، وهذه الرواية توافق أكثر الأحاديث الصحيحة ، فهي أولى .

                                واستدل لهم بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم : ( سبح ) و : ( الغاشية ) و : ( الجمعة ) [ ص: 420 ] و : ( المنافقين ) و : ( تنزيل السجدة ) و : ( هل أتى ) و : ( ق ) و : ( اقتربت ) ، وهي سور متقاربة .

                                وأما تطويل الركعة الثالثة على الرابعة ، فالأكثرون على أنه لا يستحب ، ومن الشافعية من نقل الاتفاق عليه ، ومنهم من حكى لأصحابهم فيه وجهين .

                                وهذا إنما يتفرع على أحد قولي الشافعي باستحباب القراءة في الأخريين بسور مع الفاتحة .

                                وقد خرج البزار والبيهقي من حديث عبد الله بن أبي أوفى ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيل الركعة الأولى من الظهر ، فلا يزال يقرأ قائما ما دام يسمع خفق نعال القوم ، ويجعل الركعة الثانية أقصر من الأولى ، والثالثة أقصر من الثانية ، والرابعة أقصر من الثالثة ، وذكر مثل ذلك في صلاة العصر والمغرب ، وفي إسناده : أبو إسحاق الحميسي ، ضعفوه .

                                وقد خرجه بقي بن مخلد في ( مسنده ) بإسناد أجود من هذا ، لكن ذكر أبو حاتم الرازي أن فيه انقطاعا ، ولفظه في الظهر : ويجعل الثانية أقصر من الأولى ، والثالثة أقصر من الثانية ، والرابعة كذلك ، وقال في العصر : يطيل في الأولى ، ويقصر الثانية والثالثة والرابعة كذلك ، وقال في المغرب : يطيل في الأولى ، ويقصر في الثانية والثالثة .

                                وهذا اللفظ لا يدل على تقصير الرابعة عن الثالثة .

                                وقوله : ( ويسمعنا الآية أحيانا ) مما يحقق أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر والعصر ، ويأتي بقية الكلام على ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى .



                                الخدمات العلمية