الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من [ ص: 1545 ] هاد ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب

                                                                                                                                                                                                                                        أي: ولقد أرسلنا إلى جنس هؤلاء المكذبين موسى ابن عمران، بآياتنا العظيمة، الدالة دلالة قطعية، على حقية ما أرسل به، وبطلان ما عليه من أرسل إليهم من الشرك وما يتبعه. وسلطان مبين أي: حجة بينة، تتسلط على القلوب فتذعن لها، كالحية والعصا ونحوهما من الآيات البينات، التي أيد الله بها موسى، ومكنه مما دعا إليه من الحق.

                                                                                                                                                                                                                                        والمبعوث إليهم فرعون وهامان وزيره وقارون الذي كان من قوم موسى، فبغى عليهم بماله، وكلهم ردوا عليه أشد الرد فقالوا ساحر كذاب

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 1546 ] فلما جاءهم بالحق من عندنا وأيده الله بالمعجزات الباهرة، الموجبة لتمام الإذعان، لم يقابلوها بذلك، ولم يكفهم مجرد الترك والإعراض، بل ولا إنكارها ومعارضتها بباطلهم، بل وصلت بهم الحال الشنيعة إلى أن قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين حيث كادوا هذه المكيدة، وزعموا أنهم إذا قتلوا أبناءهم، لم يقووا، وبقوا في رقهم وتحت عبوديتهم.

                                                                                                                                                                                                                                        فما كيدهم إلا في ضلال، حيث لم يتم لهم ما قصدوا، بل أصابهم ضد ما قصدوا، أهلكهم الله وأبادهم عن آخرهم.

                                                                                                                                                                                                                                        وتدبر هذه النكتة التي يكثر مرورها بكتاب الله تعالى: إذا كان السياق في قصة معينة أو على شيء معين، وأراد الله أن يحكم على ذلك المعين بحكم، لا يختص به ذكر الحكم، وعلقه على الوصف العام ليكون أعم، وتندرج فيه الصورة التي سيق الكلام لأجلها، وليندفع الإيهام باختصاص الحكم بذلك المعين.

                                                                                                                                                                                                                                        فلهذا لم يقل ( وما كيدهم إلا في ضلال ) . بل قال: وما كيد الكافرين إلا في ضلال .

                                                                                                                                                                                                                                        وقال فرعون متكبرا متجبرا مغررا لقومه السفهاء: ذروني أقتل موسى وليدع ربه أي: زعم -قبحه الله- أنه لولا مراعاة خواطر قومه لقتله، وأنه لا يمنعه من دعاء ربه، ثم ذكر الحامل له على إرادة قتله، وأنه نصح لقومه، وإزالة للشر في الأرض فقال: إني أخاف أن يبدل دينكم الذي أنتم عليه أو أن يظهر في الأرض الفساد وهذا من أعجب ما يكون، أن يكون شر الخلق ينصح الناس عن اتباع خير الخلق هذا من التمويه والترويج الذي لا يدخل إلا عقل من قال الله فيهم: فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين

                                                                                                                                                                                                                                        وقال موسى حين قال فرعون تلك المقالة الشنيعة التي أوجبها له طغيانه، واستعان فيها بقوته واقتداره، مستعينا بربه: إني عذت بربي وربكم أي: امتنعت بربوبيته التي دبر بها جميع الأمور من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب أي: يحمله تكبره وعدم إيمانه بيوم الحساب على الشر والفساد، يدخل فيه فرعون وغيره، كما تقدم قريبا في القاعدة، فمنعه الله تعالى بلطفه من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب، وقيض له من الأسباب ما اندفع به عنه شر فرعون وملئه.

                                                                                                                                                                                                                                        ومن جملة الأسباب، هذا الرجل المؤمن، الذي من آل فرعون، من بيت المملكة، لا بد أن يكون له كلمة مسموعة، وخصوصا إذا كان يظهر موافقتهم ويكتم إيمانه، فإنهم يراعونه في الغالب ما لا يراعونه لو خالفهم في الظاهر، كما [ ص: 1547 ] منع الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب من قريش، حيث كان أبو طالب كبيرا عندهم، موافقا لهم على دينهم، ولو كان مسلما لم يحصل منه ذلك المنع.

                                                                                                                                                                                                                                        فقال ذلك الرجل المؤمن الموفق العاقل الحازم، مقبحا فعل قومه، وشناعة ما عزموا عليه: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله أي: كيف تستحلون قتله، وهذا ذنبه وجرمه، أنه يقول ربي الله، ولم يكن أيضا قولا مجردا عن البينات، ولهذا قال: وقد جاءكم بالبينات من ربكم لأن بينته اشتهرت عندهم اشتهارا علم به الصغير والكبير، أي: فهذا لا يوجب قتله.

                                                                                                                                                                                                                                        فهلا أبطلتم قبل ذلك ما جاء به من الحق، وقابلتم البرهان ببرهان يرده، ثم بعد ذلك نظرتم: هل يحل قتله إذا ظهرتم عليه بالحجة أم لا؟ فأما وقد ظهرت حجته، واستعلى برهانه، فبينكم وبين حل قتله مفاوز تنقطع بها أعناق المطي.

                                                                                                                                                                                                                                        ثم قال لهم مقالة عقلية تقنع كل عاقل، بأي حالة قدرت، فقال: وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم

                                                                                                                                                                                                                                        أي: موسى بين أمرين، إما كاذب في دعواه أو صادق فيها، فإن كان كاذبا فكذبه عليه، وضرره مختص به، وليس عليكم في ذلك ضرر حيث امتنعتم من إجابته وتصديقه، وإن كان صادقا وقد جاءكم بالبينات، وأخبركم أنكم إن لم تجيبوه عذبكم الله عذابا في الدنيا وعذابا في الآخرة، فإنه لا بد أن يصيبكم بعض الذي يعدكم، وهو عذاب الدنيا.

                                                                                                                                                                                                                                        وهذا من حسن عقله، ولطف دفعه عن موسى، حيث أتى بهذا الجواب الذي لا تشويش فيه عليهم، وجعل الأمر دائرا بين تلك الحالتين، وعلى كل تقدير فقتله سفه وجهل منكم.

                                                                                                                                                                                                                                        ثم انتقل رضي الله عنه وأرضاه وغفر له ورحمه - إلى أمر أعلى من ذلك، وبيان قرب موسى من الحق فقال: إن الله لا يهدي من هو مسرف أي: متجاوز الحد بترك الحق والإقبال على الباطل. كذاب بنسبته ما أسرف فيه إلى الله، فهذا لا يهديه الله إلى طريق الصواب، لا في مدلوله ولا في دليله، ولا يوفق للصراط المستقيم، أي: وقد رأيتم ما دعا موسى إليه من الحق، وما هداه الله إلى بيانه من البراهين العقلية والخوارق السماوية، فالذي اهتدى هذا الهدى لا يمكن أن يكون مسرفا ولا كاذبا، وهذا دليل على كمال علمه وعقله ومعرفته بربه.

                                                                                                                                                                                                                                        ثم حذر قومه ونصحهم، وخوفهم عذاب الآخرة، ونهاهم عن الاغترار بالملك الظاهر، فقال: يا قوم لكم الملك اليوم أي: في الدنيا ظاهرين في الأرض على رعيتكم، تنفذون فيهم ما شئتم من التدبير، فهبكم حصل لكم ذلك وتم، ولن يتم، فمن ينصرنا من بأس الله أي: عذابه إن جاءنا ؟ وهذا من حسن دعوته، حيث جعل الأمر مشتركا بينه وبينهم بقوله: فمن ينصرنا وقوله: إن جاءنا ليفهمهم أنه ينصح لهم كما ينصح لنفسه، ويرضى لهم ما يرضى لنفسه.

                                                                                                                                                                                                                                        فـ قال فرعون معارضا له في ذلك، ومغررا لقومه أن يتبعوا موسى: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد وصدق في قوله: ما أريكم إلا ما أرى ولكن ما الذي رأى؟

                                                                                                                                                                                                                                        رأى أن يستخف قومه فيتابعوه، ليقيم بهم رياسته، ولم ير الحق معه، بل رأى الحق مع موسى، وجحد به مستيقنا له.

                                                                                                                                                                                                                                        وكذب في قوله: وما أهديكم إلا سبيل الرشاد فإن هذا قلب للحق، فلو أمرهم باتباعه اتباعا مجردا على كفره وضلاله، لكان الشر أهون، ولكنه أمرهم باتباعه، وزعم أن في اتباعه اتباع الحق وفي اتباع الحق، اتباع الضلال.

                                                                                                                                                                                                                                        وقال الذي آمن مكررا دعوة قومه غير آيس من هدايتهم، كما هي حالة الدعاة إلى الله تعالى، لا يزالون يدعون إلى ربهم، ولا يردهم عن ذلك راد، ولا يثنيهم عتو من دعوه عن تكرار الدعوة فقال لهم: يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب يعني الأمم المكذبين، الذين تحزبوا على أنبيائهم، واجتمعوا على معارضتهم، ثم بينهم فقال: مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم أي: مثل عادتهم في الكفر والتكذيب وعادة الله فيهم بالعقوبة العاجلة في الدنيا قبل الآخرة، وما الله يريد ظلما للعباد فيعذبهم بغير ذنب أذنبوه، ولا جرم أسلفوه.

                                                                                                                                                                                                                                        ولما خوفهم العقوبات الدنيوية، خوفهم العقوبات الأخروية، فقال: ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد أي: يوم القيامة، حين ينادي أهل الجنة أهل النار: أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا إلى آخر الآيات.

                                                                                                                                                                                                                                        ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين

                                                                                                                                                                                                                                        وحين ينادي أهل النار مالكا ليقض علينا ربك فيقول: إنكم ماكثون وحين ينادون ربهم: ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فيجيبهم: اخسئوا فيها ولا تكلمون وحين يقال للمشركين: ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 1549 ] فخوفهم رضي الله عنه هذا اليوم المهول، وتوجع لهم أن أقاموا على شركهم بذلك، ولهذا قال: يوم تولون مدبرين أي: قد ذهب بكم إلى النار ما لكم من الله من عاصم لا من أنفسكم قوة تدفعون بها عذاب الله، ولا ينصركم من دونه من أحد يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر

                                                                                                                                                                                                                                        ومن يضلل الله فما له من [ ص: 1545 ] هاد لأن الهدى بيد الله تعالى، فإذا منع عبده الهدى علمه أنه غير لائق به، لخبثه، فلا سبيل إلى هدايته.

                                                                                                                                                                                                                                        ولقد جاءكم يوسف بن يعقوب عليهما السلام من قبل إتيان موسى بالبينات الدالة على صدقه، وأمركم بعبادة ربكم وحده لا شريك له، فما زلتم في شك مما جاءكم به في حياته حتى إذا هلك ازداد شككم وشرككم، و قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا أي: هذا ظنكم الباطل، وحسبانكم الذي لا يليق بالله تعالى، فإنه تعالى لا يترك خلقه سدى، لا يأمرهم وينهاهم، ويرسل إليهم رسله، وظن أن الله لا يرسل رسولا ظن ضلال، ولهذا قال: كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب وهذا هو وصفهم الحقيقي الذي وصفوا به موسى ظلما وعلوا، فهم المسرفون بتجاوزهم الحق وعدولهم عنه إلى الضلال، وهم الكذبة، حيث نسبوا ذلك إلى الله، وكذبوا رسوله.

                                                                                                                                                                                                                                        فالذي وصفه السرف والكذب، لا ينفك عنهما، لا يهديه الله، ولا يوفقه للخير، لأنه رد الحق بعد أن وصل إليه وعرفه، فجزاؤه أن يعاقبه الله، بأن يمنعه الهدى، كما قال تعالى: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون " والله لا يهدي القوم الظالمين "

                                                                                                                                                                                                                                        ثم ذكر وصف المسرف الكذاب فقال: الذين يجادلون في آيات الله التي بينت الحق من الباطل، وصارت -من ظهورها- بمنزلة الشمس للبصر، فهم يجادلون فيها على وضوحها، ليدفعوها ويبطلوها بغير سلطان أتاهم أي: بغير حجة وبرهان، وهذا وصف لازم لكل من جادل في آيات الله، فإنه من المحال أن يجادل بسلطان، لأن الحق لا يعارضه معارض، فلا يمكن أن يعارض بدليل شرعي أو عقلي أصلا كبر ذلك القول المتضمن لرد الحق بالباطل [ ص: 1550 ] مقتا عند الله وعند الذين آمنوا فالله أشد بغضا لصاحبه، لأنه تضمن التكذيب بالحق والتصديق بالباطل ونسبته إليه، وهذه أمور يشتد بغض الله لها ولمن اتصف بها، وكذلك عباده المؤمنون يمقتون على ذلك أشد المقت موافقة لربهم، وهؤلاء خواص خلق الله تعالى، فمقتهم دليل على شناعة من مقتوه، كذلك أي: كما طبع على قلوب آل فرعون يطبع الله على كل قلب متكبر جبار متكبر في نفسه على الحق برده وعلى الخلق باحتقارهم، جبار بكثرة ظلمه وعدوانه.

                                                                                                                                                                                                                                        وقال فرعون معارضا لموسى ومكذبا له في دعوته إلى الإقرار برب العالمين، الذي على العرش استوى، وعلى الخلق اعتلى: يا هامان ابن لي صرحا أي: بناء عظيما مرتفعا، والقصد منه لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا في دعواه أن لنا ربا، وأنه فوق السماوات.

                                                                                                                                                                                                                                        ولكنه يريد أن يحتاط فرعون، ويختبر الأمر بنفسه، قال الله تعالى في بيان الذي حمله على هذا القول: وكذلك زين لفرعون سوء عمله فزين له العمل السيئ، فلم يزل الشيطان يزينه، وهو يدعو إليه ويحسنه، حتى رآه حسنا ودعا إليه وناظر مناظرة المحقين، وهو من أعظم المفسدين، وصد عن السبيل الحق، بسبب الباطل الذي زين له. وما كيد فرعون الذي أراد أن يكيد به الحق، ويوهم به الناس أنه محق، وأن موسى مبطل في تباب أي: خسار وبوار، لا يفيده إلا الشقاء في الدنيا والآخرة.

                                                                                                                                                                                                                                        وقال الذي آمن معيدا نصيحته لقومه: يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد لا كما يقول لكم فرعون، فإنه لا يهديكم إلا طريق الغي والفساد.

                                                                                                                                                                                                                                        يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع يتمتع بها ويتنعم قليلا ثم تنقطع وتضمحل، فلا تغرنكم وتخدعنكم عما خلقتم له وإن الآخرة هي دار القرار التي هي محل الإقامة، ومنزل السكون والاستقرار، فينبغي لكم أن تؤثروها، وتعملوا لها عملا يسعدكم فيها.

                                                                                                                                                                                                                                        من عمل سيئة من شرك أو فسوق أو عصيان فلا يجزى إلا مثلها أي: لا يجازى إلا بما يسوؤه ويحزنه لأن جزاء السيئة السوء.

                                                                                                                                                                                                                                        ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى من أعمال القلوب والجوارح، وأقوال اللسان فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب أي: يعطون أجرهم بلا حد ولا عد، بل يعطيهم الله ما لا تبلغه أعمالهم.

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 1551 ] ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة بما قلت لكم وتدعونني إلى النار بترك اتباع نبي الله موسى عليه السلام.

                                                                                                                                                                                                                                        ثم فسر ذلك فقال: تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم أنه يستحق أن يعبد من دون الله، والقول على الله بلا علم من أكبر الذنوب وأقبحها، وأنا أدعوكم إلى العزيز الذي له القوة كلها، وغيره ليس بيده من الأمر شيء. الغفار الذي يسرف العباد على أنفسهم ويتجرؤون على مساخطه ثم إذا تابوا وأنابوا إليه، كفر عنهم السيئات والذنوب، ودفع موجباتها من العقوبات الدنيوية والأخروية.

                                                                                                                                                                                                                                        لا جرم أي: حقا يقينا أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة أي: لا يستحق من الدعوة إليه، والحث على اللجأ إليه، في الدنيا ولا في الآخرة، لعجزه ونقصه، وأنه لا يملك نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة، ولا نشورا.

                                                                                                                                                                                                                                        وأن مردنا إلى الله تعالى فسيجازي كل عامل بعمله. وأن المسرفين هم أصحاب النار وهم الذين أسرفوا على أنفسهم بالتجرؤ على ربهم بمعاصيه والكفر به، دون غيرهم.

                                                                                                                                                                                                                                        فلما نصحهم وحذرهم وأنذرهم ولم يطيعوه ولا وافقوه قال لهم:

                                                                                                                                                                                                                                        فستذكرون ما أقول لكم من هذه النصيحة، وسترون مغبة عدم قبولها حين يحل بكم العقاب، وتحرمون جزيل الثواب.

                                                                                                                                                                                                                                        وأفوض أمري إلى الله أي: ألجأ إليه وأعتصم، وألقي أموري كلها لديه، وأتوكل عليه في مصالحي ودفع الضرر الذي يصيبني منكم أو من غيركم. إن الله بصير بالعباد يعلم أحوالهم وما يستحقون، يعلم حالي وضعفي فيمنعني منكم ويكفيني شركم، ويعلم أحوالكم فلا تتصرفون إلا بإرادته ومشيئته، فإن سلطكم علي، فبحكمة منه تعالى، وعن إرادته ومشيئته صدر ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                        فوقاه الله سيئات ما مكروا أي: وقى الله القوي الرحيم، ذلك الرجل المؤمن الموفق، عقوبات ما مكر فرعون وآله له، من إرادة إهلاكه وإتلافه، لأنه بادأهم بما يكرهون، وأظهر لهم الموافقة التامة لموسى عليه السلام، ودعاهم إلى ما دعاهم إليه موسى، وهذا أمر لا يحتملونه وهم الذين لهم القدرة إذ ذاك، وقد أغضبهم واشتد حنقهم عليه، فأرادوا به كيدا فحفظه الله من كيدهم ومكرهم وانقلب كيدهم ومكرهم، على أنفسهم، وحاق بآل فرعون سوء العذاب [ ص: 1552 ] أغرقهم الله تعالى في صبيحة واحدة عن آخرهم.

                                                                                                                                                                                                                                        وفي البرزخ النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب فهذه العقوبات الشنيعة، التي تحل بالمكذبين لرسل الله، المعاندين لأمره.

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية