الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري

الدكتور / محسن عبد الحميد

الفصل الخامس

المذهبية الإسلامية ودور الإنسان في التغيير

إن إبراز دور الإنسان في منهج التغيير، بدرجة كافية، غدا من الضرورات الملحة جدا، ذلك لأن الذهبية الإسلامية جعلت الإنسان مدار الحركة الحضارية، وأوكلت إليه مهمة التغيير والبناء، وكلفته بتحقيق الخلافة الإلهية على هـذه الأرض، وإدارة الصراعات المختلفة التي تجري فوقها، واستغلال ما على ظاهرها واستخراج ما باطنها، مستفيدا من الزمن الإنتاج الحضارة.

أما أنه خليفة الله في أرضه فبصريح قوله تعالى:

( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) ( البقرة: 30) . [ ص: 61 ] وقوله تعالى:

( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم ) ( الأنعام :165 ) .

وقوله تعالى:

( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ) ( ص: 26) .

وأما إنه مكلف بإدارة الحركة والعمران فبدليل قوله تعالى:

( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) (الأحزاب: 72) .

ويقوم الإنسان بهذا الدور التاريخي من خلال عقله المدرك في عالم الشهادة، وشعوره وتأمله وطاقاته الكثيرة التي زوده الله تعالى بها، لكي يصنع تاريخه على هـذه الأرض بمعونة الله تعالى. فبحركته من خلال حريته الملتزمة يتحرك التاريخ، ويتطور الزمن، وتتغير مظاهر الحياة.

إن الجبرية التي فرضت على الإنسان المسلم من خلال الفلسفات الغريبة، ليست من الإسلام في شيء.

فآيات القرآن الكريم صريحة في إعطاء هـذا الدور المبدع للإنسان وهو صنع تاريخه وحياته على هـذه الأرض، من خلال رؤيته الربانية المنبثقة من مذهبيته الإسلامية الشاملة.

( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا [ ص: 62 ] ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم ) (الأنفال: 53) . ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ( الرعد : 11) .

( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ) (هود : 117) .

( وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا ) (الكهف: 59) .

( ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ) ( آل عمران: 182) .

( كل امرئ بما كسب رهين ) (الطور: 21) .

( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ) (البقرة:134) .

( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ) (النجم: 39 - 40) .

ومع الدليل القرآني القاطع نرى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام والأجيال الأولى من المسلمين تمثل هـذه القضية تمثيلا واضحا، بحيث يقوم دليلا قاطعا على أن فهمهم للقرآن لم يتجاوز ذلك.

فقيام رسول الله بدعوته واستعماله الطاقات الإنسانية التي زود بها واتباعه كل الوسائل والقواعد في عالم العمران المادي والبشري لنشر دعوته وتحقيق المجتمع الذي أرسل من أجل بنائه، وتحمله أنواع العذاب [ ص: 63 ] والجراحات، للانتصار على الأعداء في كل مظهر من مظاهر جهاده ضدهم لدليل واضح على ما نقول.

إن المعجزات الخارقة - على كثرتها في حياته - لم تكن طريقا لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل كان طريق دعوته تحريك العقل ودفع الإنسان إلى فهم نفسه وفهم ما حوله، وإدراك ما في الوجود من القوانين والأسرار ومحاولة اكتشافها وتسخيرها لصالحه وإقامة مجتمعه العادل عليها.

إن دراسة واعية لحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم تعطينا البرهان القاطع على أنه ما من قانون من قوانين الحياة خلقه الله لأداء حق الأمانة والاستخلاف، إلا اتبعه لبناء المجتمع الإسلامي، سواء أكان ذلك في سلمه أم في حربه

[1] .

وانطلاقا من هـذه الحقيقة الإسلامية القاطعة نقول: يخطئ من يقول [2]

إن الحضارة الإسلامية كانت حضارة إلهية بمعناها اليوناني أو لاهوتية بمعناها النصراني. بل كانت حضارة إنسانية، تعتمد على حركة الإنسان، مهتدية بتوجيهات وهداية الخالق العظيم. ولذلك فإن الإنسان كان حاضرا في حضارتنا ولم يكن غائبا، ولقد دخل التاريخ وحركه من [ ص: 64 ] أوسع أبوابه على الرغم من عدم وجود مباحث نظرية مستقلة في تراثنا الفكري تنصل بهذه القضية، لأنها كانت من المسلمات البديهية في عقل الإنسان المسلم وواقع مجتمعه...

فالإنسان في تاريخنا كان واقعا ولم يكن تجريدا نظريا، ولم يا ترى، تكتب مناقشات بيزنطية حول الإنسان بعقلية الحضارات الوثنية والقرآن الكريم وضع الحقائق الكاملة عن الإنسان أمام المجتمع البشري [3] .

وإذا كان الإنسان على هـذا الزعم غائبا عن حضارتنا ومجتمعاتنا الإسلامية.

فمن الذي دخل إذن في الصراع مع الشرك حتى قضى عليه؟ من الذي نشر الإسلام وما جاء به من الهداية والحق والعدل والخير والجمال؟

دماء من جرت في سبيل نقل الإنسان المسحوق من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده؟

من الذي دخل في صراع فكري واقعي مع الحضارات الوثنية، حتى ألحق بها الهزيمة بين المحيطين ومن أواسط آسيا إلى أواسط أفريقيا؟

من الذي أقام الدول وأنشأ المؤسسات الثقافية والصحية ونظم الأسواق [ ص: 65 ] والمعاملات تنظيما دقيقا وأنقذ مجتمعه من التراكمات الرأسمالية ونظام الإقطاع القديم الذي كان الإقطاعي فيه يملك المقاطعة بما عليها ومن عليها؟

من الذي شق الأنهار وأنشأ شبكات الري وزرع الأرض وقاد قوافل التجارة، وأنشأ المعامل والصناعات المتنوعة من سمرقند إلى فاس وقرطبة ؟

من الذي ترجم نتاج الحضارات الأخرى، واستخرج منها حضارة مستقلة مصبوغة بصبغة إسلامية؟

من الذي كتب ملايين المخطوطات في العلوم والمعارف الكونية والحيوية والإنسانية التي تملأ بقاياها اليوم القاعات الضخمة في مكتبات الشرق والغرب؟

ألم يفعل كل ذلك وغير ذلك، الإنسان المسلم الذي كرمه الإسلام وأعاد إليه حقيقته الإنسانية في الواقع والحياة بعد أن كان مستلبا، عبدا للشركاء والأنداد.

نعم قد يقال: إنه قد حصل في فترات معينة انفصام بين المذهبية وجوانب من تطبيقها، في جزئية أو جزئيات معينة، أحدث زعزعة في الحياة الإسلامية، ظهرت في استبداد سياسي هـنا أو ظلم اجتماعي هـناك. [ ص: 66 ]

ولكن هـل يمكن أن نعمم القاعدة من خلال سلبيات معينة فنقول: بأن الإنسان كان غائبا في تاريخنا.

إنه من الحقائق الواضحة أن الإنسان كان حاضرا دائما في حضارتنا بجلاء ووضوح أكثر من أية حضارة سبقته.

وإذا كنا في تقويمنا لحضارتنا الإسلامية، نجد ثغرات تاريخية عدة توضح التخلخل الذي حدث في مدى تطابق المذهبية مع الحياة، لا سيما في قضايا الحكم والسياسة، وإبراز دور الإنسان فيها، فلا مناص لنا اليوم، إذا كنا نريد بناء حضارة إنسانية قوية، أن نبرز مكانة الإنسان في كل ناحية من نواحي الحياة، حتى يضع تاريخه بنفسه، ولا يمكن إبراز هـذه المكانة إلا إذا أخذ التغيير تكريم الإنسان بنظر الاعتبار واحترم آدميته بوضوح بحيث يشعر الإنسان في ظله بالأمن النفسي والاجتماعي حتى يستطيع أن يستغل طاقاته من خلال حريته في خدمة المجتمع ورقي الإنسان.

فالإنسان الذي تهدر إنسانيته وتطمس معالم شخصيته، إنسان معطل القوى مزعزع الشخصية لن يستطيع أن يشترك بقوة وأمان في بناء مجتمع الإنسان وتحقيق معنى آدميته.

ولا يمكن أن تتحقق كرامة الإنسان إلا من خلال مبدأين:

- الأول:

إقرار حريته الإنسانية في داخل الضوابط الإسلامية. [ ص: 67 ]

- الثاني:

عدم استغلاله من حيث هـو إنسان، لأن ذلك يؤدي إلى قتل شخصيته ومحو آدميته التي يصيبها العطل والسلبية تجاه الحياة [4] .

فنحن في منهجنا التغييري، لا بد أن نصوغ الإنسان المسلم من جديد قبل بناء العمارات وإنشاء المصانع وتعبيد الطرق وتنظم الحياة المادية، أو معها في الأقل.

ولا بد لنا أن نعيد إليه شخصيته المسلوبة وإنسانيته الضائعة، وننقذه من عوامل الخوف والقلق والسحق، كي نضعه على طريق التغيير والبناء الجديد.

وإلا فما فائدة البناء الفوقي دون أن نقوي الأساس، كما هـي الحال في مظاهر التقدم المادي المزعوم في معظم البلاد الإسلامية. [ ص: 68 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية