الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري

الدكتور / محسن عبد الحميد

الفصل الثاني

المذهبية الإسلامية بين الوحي والفكر

إن منهج التغيير الإسلامي المنبثق أساسا من المذهبية الإسلامية في الوجود، لا بد أن يضع خطا فاصلا واضحا بين ما هـو وحي إلهي وبين ما هـو جهد بشري، أو فكر بشري أو تصور بشري لمسائل حول الوحي الإلهي وتفسيره وشرحه في إطار قواعده وأصوله وفي ضوء المراحل التاريخية المتتابعة.

إن تسمية الوحي وما حوله من فكر، بالفكر الإسلامي أو الفكرة الإسلامية لدى كثير من الإسلاميين أنفسهم خطأ كبير شجع أرباب [ ص: 23 ] المذاهب المادية والعلمانيين على الجرأة في تسميتهما معا بـ (التراث) . فهؤلاء عندما يريدون أن يراجعوا هـذا التراث، يراجعونه من حيث هـو كل في نظرهم لا يتجزأ. والنتيجة الطبيعية عند هـؤلاء أن الوحي الإلهي يخضع للمرحلة الزمنية، فهو من التراث الذي يتعلق بالماضي. والحال أن الوحي من حيث هـو علم الله الكامل لا يمثل ذلك الماضي ولا الحاضر ولا المستقبل، بل هـو يمثل الحقيقة الأزلية التي لا ترتبط بالزمن ولا تخضع له، فهو ليس تاريخا للبشرية أو حركة حضارية تختص بمرحلة من مراحل تطور تاريخ أمة من الأمم.

وإذا كان من الممكن أن يقول قائل: إن الشرائع التي جاءت قبل الإسلام، كانت مراحل تتصل بالفترات بين الأنبياء والمرسلين. فإن هـذا - في عقيدة المسلم - لا يصح أساسا بالنسبة للإسلام، لأن الله تعالى قد ارتضى للبشرية شريعة متكاملة متوازنة لم تختص بمرحلة تاريخية معينة، وإنما هـي شريعة خالدة إلى يوم الدين، إذ لا نبي بعد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم .

( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) [الأحزاب:40].

وهذه الشريعة العامة لها جانبان؛ جانب دستوري عبارة عن نصوص قاطعة سواء أكانت في بيان أصول العقائد أو ما يتصل بأسس تنظيم الحياة البشرية في كلياتها وبعض جزئياتها المهمة. وجانب آخر يتعلق بتفاصيل ذلك التنظيم وبجزئياتها المتصلة بتغير الحياة الإنسانية في مظاهرها المتنوعة، وهذا الجانب هـو الفقه الإسلامي الذي يمثل اجتهادات العلماء [ ص: 24 ] أو أحكام العلماء، وليس بالضرورة أحكام الله سبحانه وتعالى. ولذلك فإن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم والمجتهدين الذين جاءوا من بعدهم كانوا لا يقبلون قول القائل في المسائل الاجتهادية، هـذا حكم الله، بل كانوا يقولون على سبيل المثال: هـذا ما حكم به ( أبو بكر ) ، وهذا ما قضى به ( عمر ) ، وذلك ما رآه علي رضي الله عنهم أجمعين.

ويتحصل عندنا من هـذه المقدمة أمر مهم هـو أن الفترة التي أعقبت الوحي المحمدي عليه الصلاة والسلام إلى اليوم وإلى قيام الساعة، ليست فترة معصومة مقدسة، وإنما هـي فترة خاصة باجتهاد العقل الإنساني في مناحي الحياة كلها. فتح الإسلام فيها أمام البشرية أبواب الحركة والتغيير والاجتهاد في إطار القوانين الضابطة لحركة الفكر والحضارة التي سماها علماء الإسلام بعلم (أصول الفقه) الذي يعد بحق المنهج الحقيقي لأصول البحث العلمي والعقلي، والذي يشكل صمام الأمان للاطمئنان على توازن تلك الحركة وعدم خروجها على سنن الخالق التي أودعها في الوجود كله.

وإذن فما يتقوله الذين يريدون أن يعتمدوا على الفلسفات المادية والعلمانية [1] في إحداث التغيير في العالم الإسلامي، لا سيما العربي منه، من أن الإسلاميين تراثيون أو أنهم ينظرون نظرة تراثية يجهلون أو [ ص: 25 ] يتجاهلون حقيقتين مهمتين..

· (أولاهما) : استقلال الإسلام من حيث هـو وحي إلهي عن الزمان والمكان، ومن حيث خلوده لأنه لا دين بعده ولا نسخ لعقائده وأحكامه.

· (وثانيهما) : جهلهم المركب بحقيقة أن علماء الإسلام ومفكريه وفقهاءه العظام أدركوا تمام الإدراك، أن ما في التاريخ الإسلامي من الاتجاهات والمذاهب الفكرية، لا يدخل في المفهوم الأول، بل هـو تاريخ الاجتهاد المناسب للمراحل الزمنية يمكن تجاوز أية جزئية أو قضية فيه وإخضاعها من جديد إلى المناقشة وعرضها على مدى تحقيقها للمصالح الحاضرة المضبوطة.

ولقد نبه إلى ذلك مفكرو الحركة الإسلامية الحديثة في كل ما كتبوا، ولكن مصيبة التيارات غير الإسلامية، أنها لا تريد أن تقرأ الإسلام وحقائقه، متعمدة ومتجاهلة لجمودها العقائدي، ولعدم طلبها الحق لذاته، فهم إما ملاحدة ماديون ينكرون أصل الإسلام وجميع الأديان، ويرفضون معه عقيدة الألوهية، ومن هـؤلاء من ليست لهم الجرأة لإظهار ذلك الإنكار صراحة، فيلجئون إلى طريقة حشره ضمن مصطلح (التراث) لإعادة النظر فيه ومحاربته جميعا باعتبار قدمه ومحاربة دوره في الوقت الحاضر، ومن هـؤلاء من يتراجعون أمام زحف التيار الإسلامي بمنطقة العقلي العصري، خشية الاصطدام ثم الموت، لأن المجتمع الإسلامي اليوم يرفض الإلحاد رفضا قاطعا من خلال منطق العلم ومعرفة حقيقة الإسلام. فداعي الإلحاد لا مكان له اليوم في العالم الإسلامي. [ ص: 26 ]

ومن هـنا فهو يقول: ماذا سأخسر إن قلت: إن الإسلام ديننا وتراثنا، لأن هـذا واقع من جهة، ولا يترك أثرا في الحياة الحاضرة من جهة أخرى؛ فالمذاهب المادية إذا تقدمت في ضوء تلفيقها مع التراث، ستسيطر على المجتمع كله، والتراث عندئذ لا يكون مكانه إلا في كتب التاريخ ومعالجة التراث سهلة عند ذلك، لأنه سيسقط ماديته على التراث كله، بدعوى البحث عن الجوانب المشرقة في التراث، فالنتيجة أن التراث في ظل هـذه المعانقة سـ (يتمركس) على سبيل المثال من دون إثارة مشكلة الإلحاد أصلا في العالم الإسلامي.

وأما العلمانيون فإنهم يحتفظون باسم الإسلام، ولكنهم توجهوا إلى دراسة تلك الفلسفات قبل دراستهم للإسلام فآمنوا بها ودعوا إليها على أساس أنها أنظمة دنيوية لا تصطدم مع إسلامهم، لأن الإسلام يدعو إلى العدل ويرحب بتحقيق كرامة الإنسان وهذه المبادئ تحقق ذلك.

وهؤلاء كلما درسوا الإسلام أكثر اقتربوا منه أكثر، فهم يبدءون من عملية التلفيق والدمج، ثم ينتهون إلى عملية الاستفادة.

أما عملية التلفيق فيقصدون أننا يمكن أن نأخذ الجانب الروحي من الإسلام مع الماركسية من حيث هـي منهج علمي للنضال على حد تعبيرهم، ويقولون: إن مشكلة الإلحاد في الماركسية لا تخصنا إنما تخص الصراع الأوروبي بين العلماء والمناضلين وبين الكنيسة، ولكننا نختلف عنهم لكون ذلك الصراع ليست له علاقة بتاريخنا [2] [ ص: 27 ]

ولجأ هـؤلاء إلى المصادر الإسلامية ليستخرجوا منها الآيات والأحاديث والوقائع التاريخية التي تدعو إلى عدم التمايز والمساواة وإيثار المصلحة العامة وتحقيق العدل الاجتماعي، لكي ينتهوا إلى أن الماركسية لا تقول بأكثر من ذلك فلماذا لا نستفيد منها؟.

وهذا التلفيق والامتزاج بين الإسلام والمبادئ الماركسية مرفوض للأسباب التالية:

- الأول:

لأن الإسلام دين الله الحق الكامل الشامل، له (مذهبية) تفصيلية في الوجود كله، تقوم على الحق والعدل والميزان، تنبثق منه أسس وقواعد أنظمة عدة، مترابطة، يربط بينها منطق داخلي دقيق، بحيث يشكل نظاما واحدا متشابكا لا يمكن فصل جزء منه عن جزء، فدعوى أخذ جانب منه مع جانب آخر من الرأسمالية أو الماركسية أو الاشتراكية إخلال بتوازنه وتفكيك لمنطقة الداخلي الموحد، وطعن صريح في كماله، وهذا يعني أن الإسلام بقواعده وأصوله من خلال العقل المسلم لا يستطيع رفد الزمان والمتتابع بما يحتاج إليه من ضوابط التغيير وحلوله وأنظمته التفصيلية، في الوقت الذي يتضح لكل دارس منصف أن الإسلام بمنطقه الداخلي وعن طريق أصوله وقواعده ومن خلال حركة العقل المسلم المدرك لسنن الله في الوجود والعمران، يستطيع إحداث حركة التغيير الجذري الشامل في كل عصر، وتحقيق كل ما يعود إلى الإنسان من خير وصلاح واستقامة وعدل.

ومن المؤسف أن أقول: إن جهل كثير من أبناء الإسلام بهذه الحقائق [ ص: 28 ] الإسلامية وعدم طلبهم الحق لذاته من خلال العقد الشعورية واللاشعورية التي أصيبوا بها ضد الإسلام ظاهرا أو ضمنا، ومن أرضية الخضوع لرواسب الثقافات الأجنبية التي صنعت شخصياتهم، يحول بينهم وبين إدراك تلك الحقائق.

وياليتهم فعلوا مثل ما فعل الفيلسوف الفرنسي المسلم ( رجاء غارودي ) فلقد كان غارودي من أكابر مثقفي الماركسية في هـذا العصر ثم وجد من خلال تجربة فكرية معقدة، وممارسة واقعية قاسية، أن الماركسية لا تمثل أوجه الحقيقة كلها، وإنما تمثل وجها واحدا منها، فدعا إلى المبدأ البديل في كتابه (البديل ) واقترح للإنسانية نظاما على أساس روحية الدين ممزوجا بتحقيق حرية الإنسان في المذهب الديمقراطي الغربي ملفقا مع الاقتصاد الماركسي. ثم تقدمت بغارودي الدراسة، فاكتشف أنه من المستحيل أن يتم هـذا التلفيق لأننا نأخذ عندئذ جزءا مترابطا مع كل في كل قضية، ونريد أن نمزجه مع جزأين آخرين من كلين مختلفين، فغدت عندنا ثلاث قضايا ملفقة في الظاهر، ولكن تفتقد إلى منطق ذاتي داخلي يربط بينها.

وتقدم غارودي لسنوات طويلة خطوة فخطوة يريد اكتشاف المنطق الموحد. من خلال دراسة عميقة للإسلام التي بدأها منذ أيام ماركسيته، وانتهى إلى الاكتشاف العظيم في كتابه (ما يعد به الإسلام ) .

فلقد وصل غارودي هـذه المرة إلى المذهبية الإسلامية الشاملة، ومنطقها الكوني الذي جمع بين ظواهره بقانون داخلي رابط، يشكل دين الإسلام، فذابت عنده في هـذه السبيل، عملية تلفيق المبادئ ودمج [ ص: 29 ] المنظومات المختلفة، وأعلن إسلامه بكل وضوح ورآه الطريق الوحيد لإخراج الإنسان من أزمته الحضارية الخانقة في هـذا العصر.

لم يتراجع غارودي عن إيمانه بالحرية، ولا بتحقيق كرامة الإنسان، ولم يتخل عن عشقه للعدل الاجتماعي وانحيازه الكامل للمسحوقين والمستضعفين في المجتمعات البشرية، ولكن تراجع وتخلى فقط عن التفسير الإلحادي الماركسي للتاريخ ثم عن المنهج الخاطئ، منهج التلفيق والدمج.

لقد رأى غارودي كل آماله في هـذا الدين الخاتم ومذهبيته الكونية الشاملة المترابطة، وأدرك أن طريق النضال الوحيد أمام البشرية هـو الإيمان بالإسلام ومبادئه الفطرية المنسقة في الكون والمجتمع والإنسان.

وكذلك يا ليتهم فعلوا مثل ما فعل الكاتب العربي الأستاذ (منير شفيق ) فلقد قضى في الماركسية سنوات طويلة، مؤمنا بها مدافعا عنها، مناضلا في سبيل تمكينها في المجتمع العربي المسلم، ثم تهيأت له سبل دراسة الإسلام فدرسه دراسة واعية منصفة عميقة، فظهرت أمامه الحقيقة واضحة جلية. ولم يحاول أن يلفق بين الإسلام والماركسية، لأنه أدرك أن من يحاول أن يأخذ من الإسلام جانبا منه ويترك منظومته المتكاملة سينتهي إلى شيء آخر غير الإسلام. ولذلك فإنه ترك الماركسية إلى غير رجعة وألف كتابه النفيس (الإسلام في معركة الحضارة ) عرض فيه قضية الإسلام، بعقيدة راسخة ويقين كامل ومنطق سليم في إطار من الفهم الدقيق لمذهبية الإسلام الشاملة ووحدتها الداخلية الرصينة. [ ص: 30 ]

- الثاني:

لو جئنا إلى الواقع من خلال استقراء شامل للحياة في العالم الإسلامي لوجدنا أن محاولة التلفيق بين الإسلام وبين الرأسمالية أو الماركسية أو الاشتراكية ، انتهت إلى التضحية بالإسلام، وإخراجه من معظم مجالات الحياة، ويدل على ذلك ما يلي:

(أ) التوجيه العام في تربية الأجيال غدا توجيها مقطوعا عن الإسلام خاضعا لمناهج الدوائر العلمانية والمادية الغربية في التربية والتعليم بحيث أدى إلى فصل التعليم الديني عن التعليم العلمي والإنساني، مع التقصد المخطط في إهمال التعليم الديني ومؤسساته، تمهيدا لحصر دوره أو القضاء عليه.

(ب) قادت التربية العلمانية والمادية أجهزة الإعلام المتنوعة في طريق التنكر للإسلام عقيدة وشريعة وسلوكا وحضارة والاكتفاء بعرضه عرضا لاهوتيا أو (فولكلوريا ) تراثيا متحفيا في مناسبات معينة.

(ج) عبرت في ظلها المبادئ الغربية المادية والعلمانية والجنسية الإباحية، فتمكنت من حفر أخاديد واسعة وتيارات كبيرة في المجتمعات الإسلامية، انتهت إلى الفرقة والقلق والحيرة والسلبية في الحياة. وبالمقابل فقد حوصر الإسلام حصارا يكاد يكون كاملا، وغدت الدعوة إلى حقائقه ومحاولة تمكينها ولو بالطرق السليمة، ومن خلال جهود جماعية، جريمة [ ص: 31 ] كبيرة، يتعرض أصحابها من خلالها إلى الاضطهاد المتنوع، وصل في بعض الأحوال إلى التصفيات الجسدية.

(د) ارتبطت تلك الأنظمة العلمانية بمراكز القوى الكبيرة في توجيه السياسة العالمية؛ العلنية منها والسرية، بدعوى الانسجام في المبدأ والتخطيط في السياسة المشتركة والاعتماد على قوة ضد قوة أخرى، وانتهت إلى التمزق بين أجزاء الأمة الإسلامية، لا سيما الأمة العربية الواحدة، وأدت هـذه الكارثة التاريخية الكبيرة إلى ضياع وحدة الأمة، عقيدة وحضارة وهدفا ومصيرا. وتمكن اليهود في فلسطين وضمهم لأجزائها وما حولها، وتجسدت كارثة الفرقة إلى درجة أن المتخندقين من الفدائيين الفلسطينيين وجه بعضهم إلى بعضهم الآخر فوهات مدافع الدبابات والرشاشات والبنادق. كما أن جيوش الأعداء استدعيت لغزو بلاد إسلامية عدة من قبل حكامها العلمانيين أو الماديين مباشرة أو غير مباشرة.

(ه) في ظل التلفيق بين الإسلام تراثا وبين المذاهب المادية والعلمانية عقيدة وحضارة ومنهجا فرضت على الأمة أنظمة القهر والاستبداد واستعملت خبرة الأمم كلها في تعذيب المعارضين وسحق مقاومتهم العنيفة أو السلمية، فانتهكت الكرامات واستبدل استعمار باستعمار وطبقة بطبقة [ ص: 32 ] وظلم بظلم أشد. وبقي المظلومون والمستضعفون على حالهم يفتك بهم الجهل والجوع والمرض.

لم ينته الاستلاب الإنساني كما وعدوا.

لم تسقط الكيانات الاجتماعية المتهرئة كما ادعوا.

لم تتحقق وحدة الأمة كما طبلوا لها وزمروا، بل زادوها أوصالا وتقطيعا.

لم تتكون العقلية العلمية في الأمة كما أملوا، بل زادت الخرافة والجمود، واستعانوا بها هـذه المرة للقضاء على حقائق الإسلام.. فأي تلفيق هـذا الذي يريدون، وعن أي مزج هـم يتحدثون.

لقد كانت الضحية الوحيدة لهذا التقريب المزعوم هـو الإسلام بحقائقه وحضارته وأمجاده وأمته وترابه.

(و) كان من ثمار هـذه التربية المادية والعلمانية ، انتشار مظاهر الانحراف في حياة المسلمين؛ فمن إدمان للخمر، إلى نوادي القمار، إلى دور البغاء العلني والسري، إلى الخلاعة الجنسية على شواطئ البحار والأنهار وأحواض السباحة والاستعراضات الرياضية المختلطة، إلى تسهيل الإغراءات في الملابس وتشجيع دورها ومحلاتها وصحفها وحفلات عرضها، تلك الفضائح الاجتماعية والأخلاقية التي قتلت الرجولة والشهامة والمروءة والاستقامة وروح الجهاد والكفاح في الحياة لدى [ ص: 33 ] الأجيال المسلمة.

إن المنهج الذي يدعو إلى التوفيق بين مبادئ الإسلام وبين الجوانب الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية في الحضارة الحديثة، منهج فيه ثغرة كبرى، لأنه ينطلق من أمرين متضادين، إذ لكل من الإسلام والحضارة الغربية أرضيته الخاصة، ونمطه الحضاري المتميز، فلا يجوز قطع جزء من الإسلام، ودمجه مع جزء معين من مذهب آخر أنتجته حضارة مختلفة، ليخرجا كلا فيه جزءان متباينان، لأن الكل الجديد عند ذلك يفقد تسلسله المنطقي ووحدته الداخلية واتزانه الحضاري.

وكذلك المنهج الذي يقول: إنني أؤمن بالإسلام ولكنني أستفيد من المبادئ الأخرى في الحضارة الغربية الحديثة وأدخلها في الإسلام إدخالا لا تفقده ملامحه الخاصة.

وعلى الرغم من أن هـذا المنهج هـو تعبير آخر عن المنهج التلفيقي، غير أن صحابه - إذا كانوا مسلمين حقا - لا بد أن يعدلوه، وتعديله يكون بأن أدرس الإسلام دراسة واعية، ولا أنسى أنني أعيش في القرن الخامس عشر الهجري، ولا بد أن أعلم أني محاط بحضارات أخرى هـي حصيلة التجارب البشرية غير المعصومة، مع ما بقي فيها من مبادئ الأديان السماوية السابقة على الإسلام. فأدرسها دراسة ناقدة وأهضم ما أريد أن أهضمه منها في داخل ضوابط ومنطلقات وخصائص حضارتي الإسلامية، ثم أبدأ بحل المعضلات التي أواجهها من خلال عقيدتي [ ص: 34 ] الواضحة وتجارب الإنسانية الشاملة في عالم الشهادة (المادة ) ، لأصل في النهاية إلى اقتراح حل ما للمشكلة الاقتصادية، قد يقترب كثيرا أو قليلا من حلول الأنظمة الأخرى. ولا يمكن أن يعترض عند ذلك علي فيقال: أنت نقلت القضية الفلانية من المبدأ الفلاني، لأنني في الواقع لم أنقلها، وإنما توصلت من خلال مذهبيتي المفتوحة إلى حل مشكلة منفردة، هـي ظاهرة من ظواهر المجتمعات البشرية كلها، كل منا يدرسها بطريقته الخاصة، ويوجد الحلول المناسبة مسترشدا بإطاره الثقافي، ونمطه العقيدي.

إن القضايا عند ما تفرد؛ كل قضية وحدها وتعالج، عند ذلك تتصل بوجود الإنسان من حيث هـو إنسان. إذ إن القضايا الجوهرية التي تتصل به، مشتركة، ولكن كل نمط حضاري ينظر إليها ويتقدم إلى دراستها وحلها من زاويته الخاصة، وقد تتقارب النتائج في النهاية، ولكن كل نتيجة ضمن منظومته الحضارية.

فعلى سبيل المثال: عندما ألقي نظرة على المجتمع الإسلامي وأجد أن التوازن الاقتصادي مفقود فيه، أبدأ بالتفكير من المنطلق الإسلامي لإيجاد حل لهذه المشكلة التي قد تسبب مأساة إنسانية لا يرضى عنها الإسلام، فأقترح حلولا ضمن مخطط عام للقضاء على تلك المأساة، وقد يقترب بعض ما في حلولي الإسلامية من بعض ما تقرره الماركسية أو النظريات الاشتراكية الأخرى. فلا يمكن أن يدعي امرؤ أنني أطبق هـنا مع الإسلام أحد تلك النظم الاقتصادية، لأن منطلقي يختلف تماما، فأنا أتحرك داخل الإسلام وضوابطه ونظمه الحضارية، والإنسان قد تتشابه [ ص: 35 ]

مشاكله في ظل الأنظمة المتضادة، ومع ذلك التضاد، فقد تأتي الحلول متقاربة في نتائجها، والسبب جوهر المشاكل الإنسانية، لا تلقي كل مذهبية تلقيا مباشرا من الأخرى.

ويمكن أن أنتقل من هـذا العموم إلى ضرب مثل خاص من الجزئيات الكثيرة المندرجة تحته فأقول:

لو نظر اقتصادي إسلامي وماركسي واشتراكي إلى قرض المصرف العقاري، فانتهى الثلاثة إلى أن كل أسرة لها حق في امتلاك حد أدني من السكنى، حتى لا تعيش في العراء فتتعرض كرامتها الإنسانية إلى المهانة.

ورأى الثلاثة أن الواجب على الدولة التي تمثل الشخصية المعنوية لمجموع أفراد المجتمع أن تؤمن لهم ذلك، ورأوا أن أخذ الفائدة على المبلغ المقترض لتأمين السكنى الضروري ظلم اجتماعي، يحيل عقلية الدولة إلى عقلية تاجر يريد تأمين الربح أولا، ثم اقترح الثلاثة أن الحل هـو في إلغاء الربا في هـذا القرض. ولكن مع هـذا الاتفاق الظاهري نجد أن المذهبية التي ينطلق منها الثلاثة تختلف مع الأخرى في المقدمة والنتيجة، وسنجد أن نظرة الاقتصادي المسلم تختلف عن نظرة صاحبيه. لأن إلغاء القرض عنده ليس استجابة لرفع ظلم اجتماعي فحسب، وإنما تتقدمه الاستجابة لأمر ربه في تحريم الظلم كقانون كوني ثابت، فقد حرم الظلم على نفسه وحرمه على عباده، وهذا الحرام لا يتبدل بتبدل الظروف قط كما في الأنظمة الأخرى، [ ص: 36 ] لأن الربا قد يعود عند الأزمات الاقتصادية مثلا في ظل تدابيرها الاقتصادية.

فالقضية هـنا تخضع لحسابات مادية، بينما الربا على ذلك القرض لا يمكن أن يعود في ظل النظام الاقتصادي الإسلامي، لحرمته الشرعية، استجابة لأمر الخالق. ولذلك فإن الدولة الإسلامية لا يمكن أن تعيد هـذه الفائدة حتى في الأزمات الاقتصادية التي تمر بها، بسبب الحرمة أولا، ولأنها ضمن الإطار الشامل المرن للاقتصاد الإسلامي تستطيع أن تتحرك في اتجاهات كثيرة لسد ذلك النقص في داخل ضوابط الشريعة وقواعدها العامة المرنة.

إن الحلول المتسقة مع المذهبية الإسلامية وخصائصها والتي تظهر إلى عالم الواقع ضمن نظامها العام، تسمى حلولا إسلامية، وليست حلولا ماركسية ولا اشتراكية ولا رأسمالية إن كانت القضية تتصل بحرية الإنسان.

إن المفكر المسلم هـنا كالأديب العربي الذي يقرأ أدبه ويقرأ الآداب الأخرى ويطلع على حياة أصحابها وآرائهم في الوجود من خلالها، ثم يكتب أدبا جديدا، ولكنه أدب عربي أصيل بشكله ومضمونه. فاشتراكه مع أديب إنجليزي أو فرنسي في الأنماط البلاغية والمعالجات الحياتية والنتائج المشابهة لا يسلب عنه الشخصية العربية المستقلة وأسلوب التفكير الخاص. [ ص: 37 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية