الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري

الدكتور / محسن عبد الحميد

الفصل الأول

تحديد المصطلح

إن تحديد المصطلحات التي يستعملها الباحث أمر في غاية الأهمية، إذ بدونه سندور مع المؤالفين والمخالفين في حلقة مفرغة، ولا نستطيع أن ننطلق من مفاهيم واضحة نتفق عليها، للوصول إلى حل أي مشكل.

ولقد درج المفكرون والباحثون على استعمال كلمة ( الأيديولوجية ) بمعنى العقيدة. وهم يقصدون العقائد الإنسانية، أي ما يصل إليه الإنسان بفكره لتأسيس مفاهيمه الأساسية التي تشكل إطارا فكريا لنظرته الكلية إلى الوجود. [ ص: 17 ]

وحاول كثير من الكتاب الإسلاميين أن يستعملوا (الفكر الإسلامي ) [1] أو (الفكرة الإسلامية ) بمعنى الإسلام. غير أن هـؤلاء مع فضلهم قد وقعوا في خطأ كبير، دون أن يتقصدوا ذلك. إذ كيف يمكن أن يكون الوحي الإلهي مظهرا للفكر الإنساني؟.. فالفكر إفراز عقلي لإدراك ما حوله من وجود. وإذا كان هـذا المعنى: (الفكر الإسلامي ) يصح على ما أنتجه الفكر المسلم الذي ينطلق من الإسلام في مضامير الحياة كلها، فإنه أبدا لا يجوز أن يستعمل للدلالة على الوحي الإلهي (للإسلام ) حتى لا يؤدي إلى الخلط بين الوحي والفكر. فالإسلام معصوم كله، بينما الفكر الإسلامي، ليس معصوما ولا مقدسا، يحتمل الخطأ والصواب والمراجعة في عصره وفي العصور التالية.

وحاول بعض مفكري الإسلام أن يضع بدل (الفكر الإسلامي ) مصطلح (التصور الإسلامي ) [2] وهذا خطأ مثله. لأن التصور عملية فكرية محضة، تحتمل الصدق والكذب كما هـو ثابت في علم المنطق، فلا يمكن أن يستعمل التصور بمعنى كليات الوحي الإلهي، بل قد يستعمل بمعناه الثاني الذي يدل على أنه إفراز للعقل، وليس معصوما ولا مقدسا.

وذهب عدد من الكتاب الإسلاميين في السنوات الأخيرة إلى استعمال [ ص: 18 ] (المذهبية ) [3] للدلالة على ما ذهب إليه الإسلام في أمور الكون وخالقه والحياة والإنسان، أي القضايا التي تتعلق بالكليات وليست الجزئيات.

والحق أن هـذه اللفظة زيادة على أنها دالة على معناها لغة، يمكن أن تتحول إلى اصطلاح يحقق هـدف الإسلاميين من إطلاقهم لفظ (الفكر الإسلامي ) الذي رفضناه بالمعنى الذي استعمل فيه (الوحي ) كتابا وسنة، ثم إنه يخصنا بلفظة تميزنا وتحول بيننا وبين استعمال كلمة (الأيديولوجية ) الأجنبية بمعنى الأصول والكليات الإسلامية.

وقد يقول قائل: لماذا لا نستعمل (العقيدة الإسلامية) للدلالة على المعنى الذي نريد، حتى نتخلص من المصطلحات الأخرى.

نقول: إن (العقيدة الإسلامية ) مصطلح مستعمل منذ القديم، يشمل الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر فقط، بينما نحن نريد مصطلحا أشمل من هـذا؛ فـ (المذهبية الإسلامية ) تشمل العقيدة الإسلامية وتشمل غيرها من الكليات التي ارتضاها الإسلام في العالم المادي لضبط حركته، سواء في الحياة عموما أو في المجتمع، أو داخل عالم الإنسان من حيث هـو فرد.

إن علماء الكلام عندما حصروا كليات الإسلام في دائرة الموضوعات الأربعة، وسموها (العقيدة الإسلامية) أو (علم الكلام ) أو (التوحيد ) انطلقوا من واقع الصراع الفكري في عصرهم، وحددوا [ ص: 19 ] مواقف الإسلام من خلال الكتاب والسنة واجتهاداتهم في فهمها، في القضايا المذكورة، التي كانت مثار النقاش يومئذ مع الفلاسفة ولا هـوتيي أهل الملل والنحل الأخرى.

أما اليوم فقد تبدلت ظروف الصراع الفكري، فالمذاهب الأخرى تقدم كلياتها في القضايا التي تتعلق بأصول عقائدها وفكرها في إطار الكون وخالقه والحياة والمجتمع والإنسان.

وبما أن الإسلام قد حدد مواقفه التفصيلية من أصول القضايا الكبرى في الحياة والمجتمع والإنسان، فلا بد أن نضيف تلك التفصيلات على الأصول العقائدية الأخرى، حتى تتأصل عندنا (المذهبية الإسلامية ) بشمولها، كي تستطيع أن تواجه المذهبيات الأخرى، في كل ما تتعرض له من أصول أفكارها، لأن تلك المذهبيات قد غزتنا في عقر دارنا، فنحن لا نستطيع تجاهلها، ونبقي على الموضوعات المثبتة في علم الكلام شكلا ومضمونا؛ لأن علم الكلام بشكله القديم لم يعد يفيدنا في صراعنا العصري، زد على ذلك أن علم الكلام القديم قد خلط في تقديم العقيدة الإسلامية بين الوحي الإلهي والاجتهاد العقلي في تصور تلك العقيدة. ونحن لا نريد أن نرتكب اليوم هـذا الخطأ الكبير، إذ من الضروري جدا في صراعنا الفكري اليوم وفي محاولتنا تغيير وجهة حياتنا الحضارية، أن نفصل بين الوحي الإلهي والاجتهاد العقلي، كي لا تتحول الاجتهادات العقلية إلى أصول ثابتة، تحسب على الوحي المعصوم نفسه، فتعيق حركتنا العقلية الحاضرة، وتسلب حرية مراجعتنا لاجتهادات أسلافنا، ثم تحول بيننا وبين الحركة باتجاه تأصيل حياتنا [ ص: 20 ] الفكرية في ضوء التغييرات التي تحدث في عالمنا المعاصر.

وقد يقال: إن (المذهبية الإسلامية ) قد تلتبس بالمذهبية الفقهية، نقول: لا يحصل هـذا الالتباس إن شاء الله، لأن المذهبية الفقهية تستعمل في إطار محدود جدا، ثم لم يصفها أحد إلى الآن بالمذهبية الإسلامية. فإطلاق هـذا المصطلح الجديد واضح يشهد عليه سياقه، وتدل عليه الموضوعات التي تعالج ضمن حدوده.

وفي رأيي أن كثرة استعمال مصطلح (المذهبية الإسلامية ) ستركزه في الأذهان، وسترفع عنه كل التباس أو غرابة، وستنقذنا من استعمال المصطلح الأجنبي (الأيديولوجية ) . وسنضع باستعماله حدا فاصلا بينه وبين مصطلح (الفكر الإسلامي ) أو (التصور الإسلامي ) اللذين لهما معنى آخر، هـو المعنى الاستنباطي أو الاجتهادي الذي تحدثنا عنه.

إذن فالإسلام دين الله الخالد الثابت وحيا في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، و (المذهبية الإسلامية) هـي كليات الإسلام في الوجود كله، و (الفكر الإسلامي ) هـو ما أنتجه المسلمون في ظل الإسلام من فكر بشري في الفلسفة والكلام والفقه وأصوله والتصوف والعلوم الإنسانية منذ عصر الصحابة رضي الله عنهم إلى اليوم.

وأما التصور الإسلامي، فيمكن أن يستعمل بمعنى الفكر الإسلامي لأنه مثله عملية عقلية بحتة. [ ص: 21 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية