الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              التقليد وعواقبـه

              رأينا فيما تقدم كيف آل أمر الاجتهاد إلى ما أل إليه، لقد خاف كثير من الصلحاء من أن يلج بابه من لا يصلح له، فقد تصدى الفتيا رجال صنعوا على أعين السلطان فأصبحوا يلوون أعناق النصوص إلى حيث مالت بهم رياح الهوى، وتفاوت العلماء بين مرخص ومتشدد، وخشي صلحاء الأمة على مصيرها ومصير دينها وبدءوا يبحثون عن العلاج فلم [ ص: 145 ] يجدوا منفذا للخلاص إلا في إلزام الأمة بالتقليد، ويا لها من أزمة يكون المخرج منها درك التقليد.

              إن تزاحم الفقهاء وتجادلهم فيما بينهم، واستمرار مناقضاتهم ومعارضاتهم وممانعاتهم جعل المخرج الوحيد من الجدل هـو الرجوع إلى أقوال المتقدمين في المسائل الخلافية، كما أن الناس فقدوا الثقة بكثير من القضاة لتقربهم من السلطان وإقبالهم على الدنيا وجورهم في كثير من القضايا، فأصبحوا لا يثقون بقضاء القاضي إلا إذا كان قضاؤه موافقا لقول أحد الأئمة الأربعة.

              وهكذا اعتبر تقليد الأئمة الأربعة عند جماهير المسلمين، والتزام أقوالهم في كل ما قالوا به، والتخريج عليها فيما لم يقولوا به ضمانة واقية من الاجتهادات المنحرفة التي قد تصدر عن غير أهل الورع من حملة العلوم الشرعية خدمة للأغراض، وتحقيقا للرغبات، فقد ادعى إمام الحرمين (توفي 478هـ) انعقاد إجماع المحققين على منع تقليد أعيان الصحابة، بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذي سبروا ونظروا وبوبوا الأبواب وذكروا أوضاع المسائل، وتعرضوا لمذاهب الأولين، ثم أكد ذلك وخلص إلى ذلك الحكم الغريب بكون العامي مأمورا باتباع مذاهب السابرين [1] .

              وعلى قول إمام الحرمين هـذا، وعلى ادعائه إجماع المحققين، بنى ابن الصلاح (643هـ) دعواه بوجوب تقليد الأئمة الأربعة لانضباط [ ص: 146 ] مذاهبهم وتدوينها، وتحرير شروطها، ونحو ذلك مما لم يتوفر لمذاهب سواهم من الصحابة والتابعين

              [2] وتناقله عنه - بعد ذلك - المتأخرون [3] .

              ومن هـنا بدأ إهمال الناس للكتاب الكريم وعلومه، وإعراضهم عن السنة وفنونها، وقنعوا من العلم بنقل الأقوال والمذاهب وتقعيدها وتأصيلها والجدال عنها، والتفريع عليها، والتخريج منها في أحسن الأحوال.

              واستمر الانحدار واشتد الخلاف وتعمق ونشأت بعد ذلك قرون على التقليد المحض، فركدت حركة الفكر، وذوت شجرة الاجتهاد، وانتشرت الفتن وعم الجهل، وأصبح الفقيه العالم - في نظر الناس - هـو ذلك الذي حفظ جملة من أقوال الفقهاء وتزود بعدد من الآراء، دون تمييز بين قويها وضعيفها، وصار المحدث من حفظ جملة من الأحاديث. صحيحها وسقيمها.

              وليت الأمر توقف عند هـذه الحدود، فقد نزل الحال عن هـذا الدرك الهابط إلى ما هـو أشد هـبوطا منه، كأن شمس العلوم غابت عن دنيا المسلمين وعقم الفكر، فراجت سوق البدع، ونفقت بضاعة الانحراف، وشاعت الخرافات فاتخذت أشكالا مختلفة، مما أفسح أمام الغزاة الطريق ليكتسحوا الحضارة الإسلامية ويستبيحوا ديار الإسلام. [ ص: 147 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية